الملاحظ أن جيل المفكرين الكبار في النصف الأول من القرن العشرين على الخصوص ممن افتتنوا بالغرب وروجوا للعلمانية والتغريب والماركسية والاشتراكية، واتخذوا مواقف سلبية من التراث الإسلامي، أو هاجموه بعنف واحتقار.. شهد الحقيقة الإسلامية رجوع بعضهم إليها - على تفاوت في درجات الرجوع - بين انتقال كلي إلى الأرضية الفكرية والثقافية الإسلامية، والتحول الفكري المنافح عن الإسلام وحضارته، وقيمه الواعدة باستئناف الأمة لحضارة إسلامية معاصرة، أي صاروا مفكرين وكتابا إسلاميين.
وبعضهم تراجع عن وجهة الهجوم والازدراء واتباع المسالك الاستشراقية، والانبهار بالغرب انبهارا أعمى، إلى الاعتراف بالقيم الإسلامية، والحضارة الإسلامية، وإدراك الغلو الذي كانوا عليه في انحيازهم عن ذاتيتهم الحضارية إلى القيم الغربية ومظاهرها البراقة مثل: محمد حسين هيكل (1888- 1956) في كتبه (حياة محمد، في منزل الوحي، الفاروق عمر) وغيرها من إسلامياته. طه حسين (1898- 1973) مثلا في كتابيه (مرآة الإسلام والشيخين)- زكي نجيب محمود (1905- 1993)في كتبه (تجيدي الفكر العربي ورؤية إسلامية وتراثنا بين الفكر والعقل) وغيرها - عبد الرحمن بدوي (1917- 2002) في كتبه الأخيرة (دفاع عن القرآن ودفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الرسول صلى الله عليه عليه وسلم بالفرنسية في جزئين نحو 1300 صفحة.
عند مقارنة هذا الجيل بأجيال الكتبة من الأجيال الجديدة الذين يصلون ليلهم بنهارهم مسبحين بحمد أنوار الحداثة الفاجرة، ومناهجها المنفلتة من أي قيد أخلاقي وعلمي رصين متوازن، لا أجد - حسب علمي - تراجعا أو رجوعا فكريا إلى الثقافة الإسلامية وقيمها وحضارتها.
تفيدنا هذه المقارنة من نواحي عديدة منها:
- أن جيل الرواد الكبار كانوا من الامتلاء العلمي والفكري بمكان؛ لذا ما أن غذو السير في البحث والموازنة، والتقدير، والمقارنة، وسبر الأغوار حتى بدا لهم ما غاب عن مداركهم من نفاسة الثقافة الإسلامية، وحيوية الإسلام وشريعته، وقيمه الحضارية العالية.
أما الجيل الجديد لا يعدو أن يكون نهّاب أفكار من مظان غربية فلسفية وفكرية، وقوالب حداثية، يسقطونها عشوائيا، واعتباطا على الإسلام وكتابه وشريعته وعلمائه، وحضارته، وتاريخها. أي أنهم من الفراغ علميا، والخواء فكريا بمكان. لذا فلا تجد لدى أحدهم وقفة تفكر في الرجوع والمراجعة.
- أن لجيل الرواد الذين وقفوا عند الحق من روح العلم، وشجاعة الرأي والموقف، وسلامة الطوية، ما أقدمهم على الاعتراف بالحق لمّا عرفوه، وخدمته لمّا اهتدوا إليه.
أما جيل (الحدّاثيين) فقد امتلأت جوانبهم وأفئدتهم كبرا وطيشا، واستعرت نفوسهم وغرائزهم المنحطة بنار الشهوات والمآرب الخسيسة، وجاشت قلوبهم بالطمع في نيل المرتبة، وعلو الشأن لدى مراكز التوجيه الفكري الاستعماري، فما ترك لهم كلّ أولئك من فُرضة يتسلّل إليهم عبرها بصيص ضوء عسى أن يهتدوا إلى حقيقة مواقفهم المنحطة عن كل مستوى محترم من العلم والفكر والإخلاص لوجه الحقيقة.
- أن جيل الرواد أعشته أضواء الحضارة الغربية، ومازال المسلمون حديثي عهد بها، وبعنفوان إنجازها، ووفرة إنتاجها الفكري والعلمي والثقافي، وجّدة طرحها، وما صحبه من مثالية فكرية وأخلاقية فلسفية ترفع رايات التقدّم والازدهار والرفاهية والكرامة الإنسانية والديمقراطية، وغيرها من القيم الثقافية والسياسية الزاهية المغرية. مصحوبة بقوة اقتصادية وعسكرية كبيرتين، واحتكاك استعماري جبّار بالعالم المستضعف.
أما جيل (الحُدّاثيين) الكتبة (المشلفطة) أفكارهم، فقد جاءوا بعد ما أنهكت الحضارة المعاصرة القيم الحضارية وإنسانية الإنسان وكرامة الشعوب، دوسا ونفاقا، واستئصالا، وجرائم ضد الإنسانية والطبيعة، وكبرياء في الأرض، واستئصال لأوشاج العواطف النبيلة بين الشعوب، والحضارات، ومصّا للدماء، وفجورا طاغيا لم تشهد له البشرية مثيلا، وأطلقت لوسائل إعلامها الجبارة كل العنان فجرت أبحرا هادرة الأمواج تجرف الأخلاق وقيم التعفف، والأنماط الطبيعية للعلاقات الإنسانية (الأسرة تحديدا)، ومسلك بنائها (الزواج الشرعي)، وسنّت تشريعات صدمت بها الفطرة الإنسانية أبشع صدمة، وجدت للمؤسسة الدينية الغربية (الكنيسة الكاثوليكية البابوية) خير معوان لها عليها ؛ فأقرّت وباركت زواج المثليين، وهي - أي الحضارة الغالبة - اليوم تسعى عبر مؤسسات العالم الكبرى (هيئة الأمم المتحدة ؛ في مخطط التنمية المستدامة: رؤية 2030 التي أقرها زعماء العالم وحكوماته في دورة سبتمبر 2015)، تسعى لفرضها بكل أساليب الفرض على العالم، لا ترقُب في خصوصية دينية ولا ثقافية لأمة أو دولة إلاّ ولا ذمة.
وتتمحّل للتهديد بالعقوبات كل ما تراه مناسبا، كي تُخضع الجميع لهذا الشذوذ الذي اختارت الحضارة الغربية أن تختم به دورتها.
وقد بدت نُذر هذا الاستكبار في الخضوع لرغائب عبدة الشهوات، وأعداء القيم الدينية والإنسانية النبيلة من ماسونيين وعتاة
العلمانية المادية الملحدة، ونسوانيين شاذين عن الطبيعة الإنسانية، والع قل السوي، بدت من خلال مثلا: الحكم بالسجن على موظفة أمريكية ثم موظف فرنسي جريمتهما الامتناع عن إتمام إجراءات إدارية لزواج مثليين.
قد بدا كل هذا وغيره كثير لجيل الكتبة والحُدّاثيين في العالم العربي والإسلامي، ولم تخزهم ضمائرهم بعض الوخز، فيراجعون أنفسهم ويسألون أقلامهم أحقا ما تكتب أم بهتانا؟ ويعرضون عقولهم على معايير المعرفة والعلم من تقصّى الحقائق إلى أبعد ما تُتقصّى، وقبل ذلك فليسألوا أنفسهم: هل ما تحمله أوراقهم وعقولهم علما حقا؟ وهل امتد باعهم فيه فطال البنيان الفكري والمعرفي الإسلامي والحضاري؛ أي هل فعلا صاروا بمنازل العارفين الخبراء المتضلعين في المعارف الإسلامية على نحو قريب مما كان عليه جيل الرواد مثلا؟ أم أنهم لا يعدوا أن يكونوا لُهاة أغرارا، أو طائشين مستهترين غرّهم بعض ما حُدّثوا به من دهاقنة الشذوذ الفكري باسم الحداثة والقراءات الحداثية للقرآن والتراث الإسلامي أمثال أركون وشحرور وأضرابهما ممن تسربلوا بسرابيل الصفاقة والوقاحة، فلم يرعوا لقداسة النصوص المقدسة مقاما ولا توقيرا، ولا تجردا للعلم والحقيقة في فهمها وإدراكها. بل عملوا على ركوب موجة علمنة الإسلام من داخله، وراهنوا على إنشاء جيل من الشباب المغترين بهم وبدعاوى منهجياتهم الإنسانية والاجتماعية، يحمل رسالتهم المشبوهة الهدامة.
وفعلا فقد أينعت ثمارهم من خلال ثلّة من الكتبة وأدعياء البحث، فحملوا على الموروث حملا منكرا، وعاثوا في حياضه فسادا وعدوانا لا يقل سوء وإجراما عما تفعله الجماعات المغالية باسم الإسلام، فصاروا بمثابة (دواعش الحداثة)!!!
تصوروا يرحمكم الله قول أحدهم: أنا أقتدى بالنبي، الذي لم يكن يتبع غير القرآن، لذا فانا لا أتبع السنة!!!
وأقرأ أعزك الله وأكرمك هذه الهرطقة الحُدّاثية: (ثمة فرصة كبيرة تتشكل اليوم لتيار اجتماعي قادر على تحرير الدين والصراعات القائمة في البلاد العربية من بعضهما بعضاً، ويمكن أن يكون هذا التيار ائتلافاً تعددياً من مجموعة من الأفكار السياسية والدينية، من المتدينين الذين يشاركون في الحياة السياسية والعامة على أسس وقواعد علمانية بهدف التأثير في العملية السياسية من دون إضرار بها، ومن علمانيين متدينين، يؤمنون أن العلمانية موقف ديني أو هي التطبيق والفهم الأكثر صواباً للدين، وعلمانيين غير متدينين، لكنهم لا يتخذون موقفاً عدائياً من الدين، ويؤيدون حياد الدولة الإيجابي تجاه الدين، بمعنى الالتزام بحرية
التدين مع استقلال الدين والدولة عن بعضهما بعضا). فالعلمانية هي الإيمان والإسلام، والإسلام الذي أنزله الله على نبيه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومضت عليه فهوم واجتهادات العلماء والفقهاء الأثبات والمتضلعين هو الدين المغشوش المفترى على الحقيقة الإسلامية!!
بالمناسبة هذا ما تستميت مؤسسة (مؤمنون بلا حدود) في العمل له بإمكانات مادية ضخمة، بات مصدرها والدولة التي أنشأتها معروفين، وغاياتها مكشوفة، خاصة في سياق الأحداث الكبرى التي تمر بها المنطقة العربية. فجاءت هذه المؤسسة واستغلت المحنة العظيمة، كي تقارب الخطيئة الكبرى في حق الإسلام، بغمر الساحة الفكرية والثقافية و(شبه البحثية) بنسخة هُلامية (لإسلام مُعلمن) من الداخل، غير مبالين بالتناقض والاستحالة المعرفية التي ينطوي عليها هذا العدوان الكريه. الذي صُنعت له كثير من شوارد النكرات من صحفيين وكتبة، وأدعياء بحث ومنهجية وقراءات استشرافية، وكونوا الجوقة (الداعشية الحُدّاثية)!!
وهذا الفعل من الناحية الأخلاقية على الأقل لا يقل نذالة عمن يجُهز على جريح طُعن ظلما وغيلة.
خلاصة المقال: أن المخطط الجديد هو علمنة الإسلام من الداخل، من بوابات منها: -أصحاب القراءات الحُداّثية للإسلام - مؤسسات إعلامية (تلفاز- قنوات يوتيوب- مواقع التواصل الاجتماعي) - مؤسسات أكاديمية تُمكّن لعرّابي هذه العلمنة من الداخل - جرّ مؤسسات دينية عريقة بخداع بعضها وشراء ذمم آخرين - إنشاء مراكز بحث توضع لها ميزانيات كبيرة وتسخير تكنولوجيا النشر على نحو في غاية التطور (مركز مؤمنون بلا حدود نموذجا). ووراء المشروع كله أنظمة عربية تنفق بسخاء كبير عليه.
وعلينا أن نكون يقظين: فالظروف العصيبة التي تمر بها المنطقة العربية، تجرّ كثيرا من الشباب للارتماء في أحضان العلمانية بمفهومها المعروف بل والإلحاد الذي تتناقل أخباره كثير من التقارير الإعلامية، وآخرين تجتاحهم أمواج (علمنة الإسلام من الداخل).
يجب التفكير مليا في هذا وعلى جيل المفكرين والعلماء المسلمين الذين يتلون جيل الرواد ومنهم الدكتور عمارة -حفظه الله ومدّ في أنفاسه - أن يضعوا لهم استراتيجية مواجهة النوازل الفكرية والثقافية الجديدة.
اللهم يسر وسدد لما فيه خير الأمة ودينها.