قضايا وآراء

الديموقراطية الكابحة للجماح

1300x600
الزعيم البريطاني ونستون تشرشل الذي لعب دورا مهما في انتصار الحلفاء على هتلر زعيم ألمانيا النازية خسر الانتخابات بعيد انتصاره بمدة زمنية قصيرة وكان مما قاله تعليقا على خسارته: لاهذه هي الديموقراطية، فقد شعر الناخبون في بلده أن بطل الحرب لا يصلح أن يكون بطلا للسلام وأن المرحلة تتطلب شخصية أخرى، وأنه لو فاز بعد انتصاره فقد يستأثر بمغانم الحكم متذرعا بانتصاره العسكري، وسمح الناخبون لتشرشل أن يعود إلى رئاسة الوزراء بعد بضع سنين حين استقرت الأوضاع.

وشارل ديغول الفرنسي، وهو في نظر شعبه أيضا بطل في مواجهة النازيين، فقد تنحى عن الحكم لأن الشعب لم يمنح خطته المتعلقة بإصلاحات إدارية داخلية نسبة أصوات حددها متعهدا بالتنحي لو لم يحصل عليها.

المثالان أعلاه من بلدين لا أكن لهما إلا بغضا أصيلا، فبريطانيا نفذت وعد بلفور وتحولت أنا شخصيا بسببها إلى فرد يحمل بطاقة اللاجئين من الأونروا مثلي مثل ملايين من أبناء شعبي، وأما فرنسا فهي التي ساعدت الكيان العبري في مجال السلاح  النووي ناهيك عن فظائعها وجرائمها في بلاد شقيقة لا سيما الجزائر... ولكن احترام الديموقراطية المتأصلة في البلدين درس نتعلم منه كثيرا من العظات، حول ضرورة التعامل الديموقراطي الكابح لجماح القادة العظام، وعدم تحولهم إلى أيقونات مقدسة  وعدم السماح لهم ببناء نماذج من الاستبداد المقيت.

الديموقراطية اختراع بشري تطور مع الزمن، وهي ليست مثالية مطلقة، ولكنها أفضل أداة للتعامل مع جماح –ولو كان مفترضا- مؤسسات وشخصيات الحكم والإدارة، وهي المنقذة للدول والشعوب من طيش بعض الحكام والزعماء.

فالديموقراطية المترسخة في أمريكا لم تمنح جورج بوش الأول ولاية رئاسية ثانية مع أنه حطم القوة العسكرية العراقية وتحول الاتحاد السوفياتي في عهده إلى كيان تتلوه كلمة (سابقا) وصارت واشنطن قبلة كثير من الحكام والشعوب، وقد يفسر بعض المحللين خسارته تلك بأن اللوبي اليهودي عاقبه لتلويحه بخفض المساعدات المقدمة لإسرائيل لو واصلت الاستيطان، وسأفترض جدلا صحة التحليل، ولكنه يدل على أن أداة التغيير تكون عبر الإنتخابات، وليس بمكنة اللوبي اليهودي أن يوعز لمجموعة من الضباط بمحاصرة مبنى الكونغرس والبيت الأبيض وتلاوة بيان رقم واحد عبر شبكة سي إن إن !
وحينما فاز نجله بولايتين تخللتهما حروب تركزت في العالم الإسلامي تحت شعار (الحرب على الإرهاب) وشعر دافع الضرائب بخسارة كبيرة مست جيبه، لم يعط التفويض مرة أخرى للجمهوريين.

 وكي لا نغرق في الحديث عن دول عمر العملية الديموقراطية فيها طويل، وتعلمت شعوبها بالفطرة وتقادم الزمن كيف تصحح مسارات انحراف قادتها وحكامها، لنا في إسبانيا التي ذاقت ويلات حكم الجنرال الدكتاتور فرانكو قبل بضع عشرات من السنين كيف أنها أنقذت نفسها بعد تفجيرات مدريد وأخرجت خوسيه أثنار من الحكم لتجيء بخوسيه ثباتيرو الذي سارع للانسحاب من التحالف مع بوش الصغير في حربه المجنونة في العراق... فحتى لو كان شعب ما حديث عهد بالديموقراطية فإنه لو اتبع مسارها الصحيح فإنه سيقود السفينة إلى بر الأمان.

والحالة العربية اللاديموقراطية حتى لو نظمت انتخابات وسمح في بعض الأقطار بتشكيل الأحزاب هي حالة يرثى لها، فحتى بعد الهزائم والنكبات لم يحصل تغيير في المسارات التي أدت لتلك الهزائم، وباسم فلسطين وقضيتها والشعار الكاذب بمحاربة الإمبريالية قهرت شعوب عربية وحكمت بالحديد والنار، واقتصر التغيير في الأقطار العربية على القيام بانقلابات عسكرية يجري بعدها (الرجل القوي) استفتاء معروفة نتيجته سلفا ( 99.9%) أو انتخابات شكلية، ولا كابح لجماحه، وهو ما يسهل حقيقة فرض الدول الغربية لسياساتها؛ فالغرب يدرك –ومعه إسرائيل- أن الديموقراطية ليست هي الأداة ولا العنوان في البلاد العربية وعليه يتجرؤون على من لا يحترمون خياراتهم أو يقبلون بالدكتاتورية وجموح مؤسسات الحكم بدعوى الاستقرار المزيف... أما النتيجة فنراها رأي العين والمصائب تترى والكوارث تعقبها كوارث أكبر في بلدان العرب التعيسة!.

والأمر ليس مقتصرا على العرب في ظل غياب الديمقراطية فالاتحاد السوفياتي كان كيانا استبداديا محكوما بنظام الحزب الواحد ويسوس الناس بقبضة الأمن والجيش، ولهذا لا أصوات ولا تظاهرات أمام نعوش جنود الجيش الأحمر العائدة من أفغانستان، بعكس الوضع في الولايات المتحدة أمام النعوش القادمة من فيتنام، وحتى عند انسحابه لم يعترف بحجم الخسائر في بلاد الأفغان، وجاءت روسيا الاتحادية وريثة طبيعية للإمبراطورية السوفياتية التي انهارت وكانت ديمقراطيتها شكلية أتاحت لرجل الأمن السوفياتي السابق فلاديمير بوتين أن يصبح مثل القيصر في روسيا، ولا ندري هل ستخرج مظاهرات بعد عودة نعوش الجنود من سورية أم لا، ويبدو أن الروس مثل العرب يتغاضون عن الأخطاء وجموح الحاكم إذا حقق نجاحا في بعض الملفات ويعطونه تفويضا ضمنيا ليتصرف كما يشاء ويفرض سياسته الاقتصادية والعسكرية بعيدا عن أي رقابة أو محاسبة حقيقية، خاصة أن الإعلام لا يكوِّن الرأي بطريقة صائبة بل هو إعلام يتبع أسلوب (حمل المباخر) والدجل والكذب.

فالديمقراطية الحقيقية لا الشكلية تضمن تقليم أظافر الحاكم الجموح لما فيه خير له شخصيا وخير لبلده وشعبه على المدى البعيد، وهي الأداة الأفضل لتصحيح الانحرافات في مسيرة الدول، واستمرار الخلل والانحراف وصفة جاهزة للانهيار الشامل المصحوب بحروب أهلية مدمرة ومن يقولون بأن شعوب العرب ليست جاهزة بعد للديمقراطية، فإنهم يرددون هذه الفرية منذ عقود ولو أنهم وقتها تخلوا عنها  واتبعوا مسارا ديمقراطيا حقيقيا لما وصلنا إلى هذا الحال.