ربما يبدو حدثا عاديا. فما الأهمية النوعية في أن يصرح رئيس حزب فرنسي تصريحا مسيئا للجزائر، وتحديدا لماذا يجب أن يهمنا ذلك كتونسيين.
تصريح نيكولا ساركوزي المرشح الرئاسي المرتقب في الانتخابات الفرنسية ورئيس حزب "الجمهوريين" هذا الأسبوع في إطار زيارته إلى متحف باردو حول أن "
تونس لم تختر موقعها بين ليبيا والجزائر" و"أن مستقبل الجزائر غير واضح وسيناقش في إطار الاتحاد المتوسطي،" كان مضرا بتونس حتى إن بدا لبعض المعجبين به مديحا لها. للإشارة زيارة ساركوزي لمتحف باردو رافقه فيها أمين عام الحزب الأغلبي الحاكم.
ساركوزي عقد باسم حزبه ندوة صحفية مشتركة مع الحزب التوأم في تونس، حزب نداء تونس، ولا أعتقد أنها رسالة جيدة من الحزب الأغلبي الحاكم لجارينا.
الأسوأ أن زيارته تم تأطيرها رسميا من رئاسة الجمهورية. لماذا يجب أن يستقبل رئيس تونس في أوقات عمله وفي القصر الرئاسي رئيس حزب فرنسي لا يتحمل أي صفة رسمية، خاصة أن مواقفه تجاه الجزائر معروفة؟! وخاصة أن الحكومة التونسية تمر بفترة علاقات باردة مع الجزائر منذ إعلان تونس من الإدارة الأمريكية "حليفا غير عضو بالناتو".
مباشرة بعد تصريح ساركوزي الذي تهجم فيه على الجزائر وبرفقته أمين عام الحزب الأغلبي (وخلفهم بعض مسؤولي الدولة بما في ذلك وزير الداخلية)، صرح وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية الجزائري عبد القادر مساهل في تلميح واضح لتونس: "الدولة القادرة لا تحتاج إلى قاعدة عسكرية أجنبية، وبإمكانها أن تضع وحدها الدواء اللازم في مكافحة
الإرهاب والدفاع عن مصالحها الحيوية".
بعد نجاحهم الاستثنائي في توتير العلاقة مع حكومتين ليبيتين كفاءات
السبسي الديبلوماسية، تواصل توتير العلاقة مع الجزائر. لم يبق من جيراننا سوى البحر لم ينجح هؤلاء في توتير العلاقة معه.
الوقف الجزائري الرسمي المتحفظ إلى حد ما تعكس عمقه الفعلي الصحافة الجزائرية التي تتحدث في أحيان كثيرة عن طلبات "قواعد عسكرية أجنبية" خاصة أمريكية في تونس، وعن رفض الجزائر لذلك.
ومما لا شك فيه أن هناك تسريبات أمريكية جدية عن (خاصة في مقال للوول ستريت جورنال منذ أسبوع) عن إمكانية طلب واشنطن من تونس استعمال أحد القواعد الجوية، (يقع الحديث عن قاعدة قفصة) لنزول وهبوط طائرات دون طيار، ليس فقط الاستطلاعية منها بل الأهم القاذفة للصوراريخ في إطار استهداف مكثف لداعش في ليبيا، بما يعني عمليا توسيع نطاق عمليات "التحالف العسكري ضد داعش".
تتم الإشارة أيضا إلى مصر وربما إلى تشاد من ضمن دول الجوار، غير أن المستجد الأخير والمتمثل في "منح" الإدارة الأمريكية رسميا لتونس صفة "الحليف غير العضو" أتت تقريبا في ذات توقيت هذه التسريبات.
للإشارة، فإنه من غير المعروف ما مدى جدية المشاروات التي تمت بين أحزاب التحالف الحاكم للوضع الجديد قبل اتخاذ واشنطن القرار فعليا وبشكل حاسم في 21 مايو 2015 في أثناء زيارة السبسي للولايات المتحدة.
للتذكير، كل الدول العربية التي تتميز بهذه الصفة (مثلا المغرب والأردن) إما أن تقدم تسهيلات لوجيستية للناتو، أو تشارك معه فعليا في بعض العمليات خاصة "التحالف ضد داعش".
لا شك أيضا أن أي موقف تونسي من هذه الطلبات يجب أن يبنى على اعتبارات تونسية بحتة، وهنا من الواضح أن من الثوابت الأساسية للسياسة الخارجية التونسية تجنب الدخول في تحالفات عسكرية خارج إطار الأمم المتحدة.
بالإضافة إلى ما أثبتته سياسة أوباما في التركيز على استعمال الطائرات دون طيار القاذفة (الباكستان واليمن) التي أثبتت سلبيتها، خاصة على مستوى الخسائر البشرية في صفوف المدنيين. وهنا يجب أن نتحضر في تلك الحالة لضربات حتى داخل تونس في إطار ملاحقة أي اختراقات لداعش يمكن أن تأخذ المدنيين رهائن.
ومن الواضح أن هناك شيئا تغير في عقلية الحكام الجدد، رغم ادعائهم تبني سياسة تقليدية بورقيبية. وكان الرئيس الباجي قائد السبسي ألمح في أحد حواراته بعد العملية الإرهابية التي استهدفت متحف باردو في مارس 2015 أنه يأمل "في تفعيل الاتفاق مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ما يجعل من تونس شريكا مميزا مثل الأردن ومصر في مجالات الدفاع والأمن والتنمية والتعاون".
ونبهت حينها بالحرف إلى أن المعروف بأن العقيدة العسكرية للجيش الوطني التونسي، تقوم أساسا على رفض حضور أي قوات أجنبية على أراضيه.
من جهة أخرى لن تكون السلطات الجزائرية مرتاحة لذلك، وفق عقيدة "الوحدة الترابية" المستقلة السائدة في عقل النظام هناك. الجزائر التي تتقاسم معها تونس حدودا طويلة ومصالح مشتركة عميقة، أبرزها أنبوب الغاز الذي يمر من الأراضي التونسية إلى أوروبا، محدد أساسي في أي ترتيبات أمنية في المغرب العربي.
وسبق أن أشرت في مقال سابق في "
عربي21" إلى موضوع اهتراء السيادة الوطنية في سياق مكافحة الإرهاب. ومن الأمثلة التي شهدتها بشكل مباشر من خلال عملي مع الرئيس
المرزوقي الاستهداف المتعمد وسط سبتمبر 2012 من "أنصار الشريعة" التونسية لمبنى السفارة الأمريكية.
صيغة استهداف موقع متقدم للسلطات الأمريكية يأتي في إطار محاولة العقل الاستراتيجي الإرهابي، لخلق ظروف ملائمة لتدخل أجنبي ومن ثمة صناعة حالة رأي عام محتقن ضد ذلك.
وكان موقف الرئيس المرزوقي آنذاك رافضا لأي تدخل عسكري حتى مؤقت لإنقاذ الطاقم الديبلوماسي، وتم القيام بكل الجهود لضمان ذلك عبر قوات تونسية (وهو ما تم أساسا عبر قوات الأمن الرئاسي التونسي التي أبلت البلاء الحسن).
والشيء ذاته حصل عندما رفضنا طلبا فرنسيا لاستعمال الأجواء التونسية في إطار العملية العسكرية في مالي.
وهنا من المهم التشاور مع الجزائر في الطلبات الأمريكية، خاصة أن الأمن الإقليمي يستوجب حدا أدنى من الانسجام. لكن بمعزل عن ذلك هناك أسباب جيوسياسية تتعلق بوضع تونس، وأيضا براغماتية في الصراع ضد الإرهاب، تجعلنا نتجنب منح تسهيلات لوجيستية يمكن أن تخلق صورة الحليف العسكري للطرف الأمريكي.
وعلى الولايات المتحدة ذاتها التفكير جليا في الاستتباعات الدعائية المضرة في هذه الحرب النفسية لأي قواعد مستعملة أمريكيا على الأراضي التونسية، خاصة أن الحرب ضد الإرهاب هي حرب أيديولوجية ونفسية بالأساس.
إذ هناك توازن ضروري بين حتمية التنسيق الأمني والعسكري مع الدول الصديقة والشقيقة في مكافحة الإرهاب، وبين أهمية استقلالية القرار الوطني باعتبارها تحصينا للوحدة الوطنية من أي دعاية إرهابية تستهدف مبدأ الدولة الوطنية.
لكن ما يلاحظ الآن في تفكير الحكام الجدد في تونس، هو هيمنة حسابات لوبياتهم المختلفة المتصارعة على كعكعة السلطة وأولوية تحصيل الدعم والإسناد الخارجي لهذا اللوبي أو ذاك، بمعزل عن أي استتباعات تخص المصلحة الوطنية العليا.