جاء الاختبار الانتخابي لرجب طيب
أردوغان في توقيت سيّئ، فهو لم يكمل بعد عامه الأول في رئاسة تمتد لسبع سنوات. ولا شك أنه قدر صعب لحزب «العدالة والتنمية» أن يجد زعيمه المفترض أن يكون دعامة أساسية لشعبيته وقوّته، وقد أصبح سبباً لخسارته، حتى وهو يفوز بالعدد الأكبر من الأصوات والمقاعد، غير الكافي مع ذلك لتشكيل حكومة تنال ثقة البرلمان.
صحيح أن الحزب، بوزرائه ونوابه وكوادره وجهازه، قام بما عليه طوال ثلاثة عشر عاماً في الحكم، وحقق الكثير من الإنجازات، غير أن انفعالاً أردوغانياً من هنا، وكلمة أردوغانية من هناك، وخطأ أردوغانياً من هنالك، فعلت فعلها في «شخصنة» الخلاف معه ومع حزبه، وراكمت المتضررين والمتوجّسين والناقمين.
كان بالغ الدلالة أن يجمع محللو الانتخابات ونتائجها على أن مسؤولية الإخفاق تقع على عاتق الرئيس أولاً، وليس على الحزب أو حتى الحكومة. وطالما أن الحزب استطاع البقاء في المرتبة الأولى، فهذا يعني واقعياً أن ما يقرب من نصف الناخبين لا يزالون يراهنون على أدائه السياسي والاقتصادي، لكن نسبة مهمة منهم أرادت أن توجّه إليه إنذاراً سياسياً لدفع الرئيس إلى رؤية الحدود التي ينبغي عليه احترامها.
وطالما أن الأحزاب الثلاثة الأخرى الفائزة لا تستطيع أن تتحالف لتشكّل بديل من «العدالة والتنمية» وحكمه، فهذا يُترجم بأن الناخب يريد بقاء الحزب الحاكم حاكماً، لكن مع تعديل سلوكياته، فلا مجال لتغيير نظام الحكم تعزيزاً لصلاحيات يطلبها رئيسه، ولا سكوت على لفلفة قضايا فساد تورّط فيها بعض أعضائه، ولا داعي لإضعاف الطابع المدني للدولة من أجل أجندة أيديولوجية تقتضي جرعات زائدة من «الأسلمة».
وبطبيعة الحال كانت هناك إشارات كثيرة من جانب المعارضة التقليدية، العلمانية والقومية، التي ساءها الابتعاد عن مسعى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو التبنّي المتهوّر لجماعة «الإخوان المسلمين» إلى حد معاداة مصر، أو أخيراً التورّط غير المدروس في سوريا والعراق دون أي تأثير في ما يُخطّط لمستقبلهما، أو منع تداعياته على وحدة
تركيا نفسها.
صحيح أن هناك إجماعاً آخر على أن «حزب الشعوب الديمقراطي»، هو الذي تسبب بخسارة أردوغان، لكن ما حصل كان طبيعياً جداً، إذ انصبّت أصوات الأكراد على حزبهم الوحيد المرخّص له بعدما تكتّل مرشحوهم فيه. لم يكن متوقعاً أن يفعلوا غير ذلك، حتى لو بدوا كأنهم ينقلبون على أردوغان الذي أتاح لهذا الحزب أن يوجد، بل إنه السياسي الوحيد الذي تجرأ على فتح ملف المسألة الكردية، وطرح مشروع «السلام الداخلي» لحلّها.
كان أكراد تركيا يبحثون منذ نحو مئة عام عن اعتراف بهم وبقوميتهم. ولا يمكن أن يقنعهم أي حلّ مقترح ما لم يحصل مثل هذا الاعتراف، وها هو أصبح الآن حقيقة مثبتة بفضل صناديق الاقتراع.
لو أمكن لأردوغان أن يمضي في التسوية معهم إلى نهايتها لربما اتخذت الانتخابات وجهة أخرى، لكنه قطع نحوها بعض الأميال فقط، وليس واضحاً الآن أي مسار ستسلكه، فالأكراد أصبحوا جماعة ضاغطة، ولم يعودوا مجرد ناخبين يحتسبهم أردوغان في رصيده. ومع أن «حزب الشعوب» استقطب معظم الراغبين في إسقاط «النظام الرئاسي» قبل حصوله، إلا أن هذا الحزب يعرف أن تحقيق مطالب الأكراد يبقى مرتبطاً بأردوغان، فليس هناك زعيم آخر يستطيع أن يجري تسوية معهم.
كل التوقعات تتجه إلى انتخابات مبكّرة، لكن ليس فوراً ولا تلقائياً، فالإسراع إليها قد يفاقم النقمة على الحزب الحاكم، وقبل ذلك لا بد من تجربة الخيارين المتاحين: فإما حكومة ائتلاف يبدو احتمالها محصوراً بالحزب الكردي رغم العداء المتزايد معه، ومن شأن هذا الحزب أن يصعّب شروطه أو يحاول نيل تنازلات مبكرة تتعلق بمطالبه القومية، وفي هذه الحال لن يحقق «العدالة والتنمية» المصلحة المتوخاة من الائتلاف. وإمّا حكومة أقلية غير مضمونة الفاعلية لكنها تحاول العيش لفترة بتوافقات متقلّبة مع المعارضة، قبل أن تتضح الضرورة للذهاب إلى انتخابات مبكرة.
في الأثناء أطلقت الانتخابات ترقّباً خارجياً لانعكاساتها على السياسات الخارجية لتركيا، وما إذا كانت مبنية بمعظمها على مواقف أردوغان، وهو ما يعتقده بعض الخبراء، مشيرين خصوصاً إلى مسألة «الإخوان المسلمين»، وكيف جعل منها سياسة دولة، مع أنها في الأساس سياسة حزبية.
أما البعض الآخر، فيرجّح أن خيارات أردوغان بالنسبة إلى سوريا مثلاً هي خلاصة استراتيجية وضعتها الحكومة مع المؤسسة العسكرية. ولأن احتمالات التغيير واردة، فإن الموضوع متروك للمراقبة.
(نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية)