الوضع الاقتصادي والاجتماعي صعب في
تونس، لكن أسوء ما يمكن أن يحصل هو التوزيع غير العادل للتضحية، طلب التضحية من الأقل دخلا ومضاعفة الامتيازات للأكثر دخلا. هذه وصفة تفقير للمجتمع ومنع ازدهاره، وحتى حملة "#وينو_البترول"، يجب النظر إليها من هذه الزاوية فهي تعبير مباشر وعفوي عن التذمر من هيمنة القضايا الايديلوجية المزيفة خاصة بعد التحالف الدستوري-الإسلامي، واتفاق سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية والتبرم من تواصل اقتسام الثروة بين أقلية في إطار غير شفاف وترك البقية يقبعون أسفل السلم الاجتماعي.
في تقرير "البنك الدولي" حول وضع القطاع الخاص في تونس منذ حوالي السنة، كانت الكلمة المفتاح "رأسمالية المحاباة" بوصفها المنظومة القيمية والاقتصادية التي أسست لمنظومة
الاستبداد والفساد، ورسخت فكرة اختلال اجتماعي يقوم على استنزاف الطاقة الشرائية والجبائية للفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، مقابل منح كل الامتيازات الممكنة لطبقة من رجال الأعمال من ذوي الحظوة والذين يتمتعون بـ"محاباة" خاصة من قبل طبقة الحكم.
الدولة الديمقراطية ليست انتخابات فحسب وإذا أرادت ترسيخ وجودها فلا يمكن أن تحافظ على هذه المنظومة وتغير فقط هوية طبقة الحكم. وعليه؛ فإن استمرار أساسيات هذا الوضع أي اختلال التوازن مضر بفاعلية النظام الديمقراطي الناشئ في تونس، للأسف بعد تعاقب الحكومات المؤقتة وانتخاب المؤسسات الدائمة نحن إزاء ترسخ هذا الوضع أكثر فأكثر مع تحالف حاكم يلتقي في فلسفة اقتصادية واجتماعية تعطي الأولوية لـ"القطاع الخاص" لكن دون إصلاحه ودون تحريره من اللوبيات.
آخر التطورات الصادمة هو إلغاء حكم ابتدائي للمحكمة الإدارية مرسوم شباط/ فيفري 2011 القاضي بمصادرة أملاك عائلة بن علي ومن ثمة إرجاعها إليهم، بل وتقديم تعويضات إليهم للسنوات الفارطة.
من الناحية القانونية الإجرائية يتعرض الحكم الآن إلى انتقادات تتلخص أساسا في أن قرار المحكمة الإدارية مبني على الفصل 28 من دستور سنة 1959 الذي يقضي أن المراسيم لا تتحول لقوانين إلا بعد أن يصادق مجلس النواب عليها، في حين أن القانون الأساسي عدد 6 الصادر في 23 آذار/ مارس 2011 ألغى دستور 1959، و بالتالي فإن المحكمة الإدارية بقرارها تعتبر أن دستور 59 لا يزال متواصلا وكأنها لا تعترف بإلغاء دستور بنص آخر في حالات القطيعة مع النظام السياسي السابق.
فإن كانت لا تعترف بالغاء دستور 59 فلا يجب أن تعترف بإلغاء دستور 1861 و في تلك الحالة يجب أن تعتبر أن دستور قرطاج لا يزال متواصلا. كما أن المحكمة الإدارية عندما حكمت بناء على فصل 28 من دستور 59 تدخلت في صلاحيات لا تخص صلاحياتها إذ أن مرسوم المصادرة في قيمة القانون بناء على التنظيم المؤقت للسلط العمومية الصادر في آذار/ مارس 2011.
يأتي هذا القرار بعد أشهر قليلة من إعلان الرئيس
السبسي عن خطة لـ"المصالحة الاقتصادية" وفي سياق غامض لم يوضح إن كانت "المصالحة" ستكون في إطار مسار العدالة الانتقالية أم ستكون خارجها من خلال سلطة تنفيذية مسيسة، خاصة أن الحزب الأغلبي متشكل أساسا من منظومة حزبية موروثة عن حزب بن علي المنحل "التجمع الدستوري الديمقراطي". وعلى هذا الأساس فإن قضاة مستقلون مثل أحمد الرحموني رئيس مرصد استقلال القضاء يشيرون إلى السياق السياسي للحكم وأنه حكم مسيس بالأساس.
في مقابل ذلك يزيد الوضع الاجتماعي احتقانا وتتعدد الاضرابات التي مست عددا من القطاعات وخاصة بعد سابقة الإرتقاء الآلي لجميع التلاميذ ردا على الإضراب الإداري ومقاطعة الامتحانات من قبل نقابة المعلمين، إزاء هذا الوضع المعقد الذي أصبح يهدد وضع الدولة ذاتها هناك حاجة لاجراءات سريعة تبعث رسالة عدالة اجتماعية وجبائية، وذلك وحده يمكن أن يوقف حالة الاحتقان الراهنة.
أولا، يجب على الحكومة تحمل مسؤوليتها الكاملة ومصارحة الشعب التونسي حول التوازنات المالية للبلاد، وتحديد أفق أي مفاوضات اجتماعية في أي قطاع، وكشف شروط المؤسسات المالية الدولية المقرضة لتونس في سياق المهلة التي أعلنت عليها وطبيعة "الإصلاحات الصعبة" المراد من بلادنا القيام بها.
خاصة أنها تتركز أساسا على حوافز للقطاع الخاص بدون إصلاحه (مجلة الاستثمار، قانون الشراكة قطاع عام قطاع خاص، خوصصة جزء من المنظومة البنكية العمومية تحت عنوان حوكمتها…).
ثانيا، الوضع الاقتصادي الاجتماعي صعب، وإذ كان حق الإضراب حق دستوري ويجب رفض أي محاولات لتشويه العمل النقابي وضربه؛ فإن الوضع القائم يستوجب أيضا تحمل الأطراف النقابية للمسؤولية، وتجنب المساهمة في تعميق العجز في الميزانية لكن بكل تأكيد يستوجب في ذات الوقت وبذات القدر تحمل الحكومة لمسؤوليتها، والإلتزام بتحصيل الضرائب من جميع الفئات الاجتماعية بدون استثناء.
ثالثا، يجب على الحكومة التسريع باعتماد مشروع الإصلاح الجبائي الذي أعدته الحكومات السابقة في إطار الميزانية التكميلية وخاصة تفعيل كل ما يضمن وقف نزيف التهرب الجبائي بما يساهم في ارساء عدالة جبائية تقطع مع تواصل تحمل الثقل الجبائي أساسا من الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة.
رابعا، من الضروري مبادرة الحكومة إلى بدء حوار اجتماعي واسع بحضور الأحزاب في أسرع وقت بما يهدئ من الاحتقان الاجتماعي.
إن التهرب الضريبي هو عنوان أساسي لحالة الاختلال الاجتماعي بين الأقل دخلا والأكثر دخلا، ولا يمكن إقناع الفئات الفقيرة والمتوسطة بتجميد المطلبية اذا لم يتم تفعيل العدالة الجبائية. لكن "الإصلاحات الصعبة" التي تدفع في اتجاهها الحكومة بتوصيات من المؤسسات المالية المقرضة لا تستهدف الحزم الجبائي إزاء الأكثر دخلا بل تذهب في اتجاه التسهيل الجبائي. وهنا يجب القول إن جزءا من القطاع الخاص المثابر البعيد عن لوبيات الاحتكارات متضرر من الوضع الراهن بما في ذلك السطوة المتصاعدة للوبيات التهريب. ولإصلاح القطاع الخاص يمكن التفكير في منظومة جبائية على الواردات تقلل في نسبتها مقابل توحيدها بما يمكن أن يضرب في نفس الوقت التهريب والفاسد في قطاع الديوانة.