عندما يحمل مخرج يعلن في حواراته "أنه ملحد عن قناعة" مسؤولية إقناع الشباب المسلم بأن رسالة محمد بن عبدالله رسالة سلام ونبذ للعنف والتطرف، فالنتيجة تكون على شاكلة المشهد التالي:
الممثل: أنت تلعب في منطقة خطرة..
المخرج: ما الذي تعنيه؟
الممثل: أنا مسلم وكل ما يمس الإسلام يمسني. أنت تستعملني في هذا الفيلم لمحاربة المسلمين. لن أصور مشهدا آخر قبل أن توضح لي علاقتك بالدين.
المخرج: اسمع يا لطفي، قبل كتابة سيناريو هذا الفيلم قرأت القرآن باللغتين العربية والفرنسية. القرآن جامع لكل شيء. يجد فيه المتصوف كل ما يبحث عنه من حب وسلام، ويجد فيه من يريد الحرب آيات الجهاد. في مراحل الغزوات صار القرآن أداة غزو يتحدث كثيرا عن القتال والجهاد... أنا أومن أن القرآن كان صالحا لزمانه، واليوم يلزمنا أن نكون لائكيين حيث القرآن يترك للمعتقد لا كأداة لحل المشاكل اليومية وإلا صار الأمر جحيما... كل ما أريده هو كشف ما يتعرض له شباب مثلك من عمليات غسيل دماغ...
قبل أيام صُدم
التونسيون بخبر التحاق مغني الراب المعروف مروان الدويري " ايمنيو" بتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام. قبلها بيومين أو ثلاثا كانت صدمة التونسيين أقوى بعد الهجوم الذي تعرض له متحف "باردو" الأقرب إلى مقر البرلمان الذي يعد إحدى مؤسسات الدولة الأهم من قبل مسلحين اثنين. قبلها بسنوات أخرج نوري بوزيد فيلمه "آخر فيلم" الذي يستعرض فيه كيف سقط شاب تونسي أسير جماعة دينية سعت لتجنيده للقيام بأعمال إرهابية، ومنه كان المشهد السابق حيث اشتغل المخرج على تقنية الانتقال من الفيلم إلى كواليس التصوير التي تشكل في الآن ذاته أهم مشاهد الفيلم الأصلي وهو ما يفسر عنوانه بالانجليزية Making Off. لكن ما الذي يجمع بين الأخبار الثلاثة هذه؟
إيمنيو كان مغني راب تونسي مشهور في الخامسة والعشرين من عمره، اشتهر بأدائه أغنية "البوليسية كلاب" رفقة ولد الكانز وبسببها قضى أشهرا في السجن، ولم يعرف عنه تبنيه أية توجهات دينية. بهتة، الشخصية الرئيسية ل"آخر فيلم" راقص ومغني راب في العشرينات من عمره، منطلق ومحب للحياة، بشوش ولا يحمل في محيطه أو حياته الخاصة أية ميولات متطرفة ويعيش مغامراته مع صديقته سعاد. أما ياسين العبيدي، ذو السابعة والعشرين سنة وأحد منفذي هجوم باردو، فيقدمه شقيقه على أنه " كان إنسانا عاديا، بشوشا، يحب كل الناس، وعندما يمر على أصحابه وهم يسكرون يتوقف لتقاسم لحظات مزاح وضحك معهم" في حين قال عنه ابن عمه " قبل أن يواظب على الصلاة، كان يشرب الكحول ويدخن وله صديقة. ومن المؤكد أنه تعرض لعملية غسل دماغ باسم الدين".
حساب "افريقية للإعلام" على تويتر، المحسوبة على تنظيم داعش، قالت في بيان لها حول التحاق ايمنيو: "مروان مسلم عادي كغيره من المسلمين.... لم يرغمه أحد ولم يغسل له أحد عقله كما يزعم الحمقى...". في "آخر فيلم" يواجه بهتة أحد مفتشي الشرطة الذين حضروا لاعتقاله وثلة من أصدقائه بتهمة الرقص في الشوارع والكتابة على الجدران: "امنحني جواز سفر ولن تجدني أمامك بعد اليوم" قبل أن يصرخ في وجهه " وإلا سأذهب للمشاركة في الحرب بالعراق". تحقق المشهد واقعيا حيث اختار ايمنيو، الذهاب بعيدا ليس في اتجاه "البرزخ" الأوربي بل "برزخ" الخلافة الإسلامية في العراق والشام واشترى الآخرة بديلا عن الدنيا كما مهاجمي متحف باردو الحالمين بالبرزخ الأخروي.
على شاطئ البحر يقف بهتة ثملا يواجه البحر بكلماته:
أقول لوالدي وأصدقائي
ولكل الذين احتقروني في بلادي
بهتة موجود، في أوربا يقاوم
بهتة يرقص، هو دوما منطلق
نخبك يا صقيلية، نخبك يا أوربا...
الخلاصة أن الأحكام الجاهزة التي تحصر مغنيي الراب في لباس والمنتمين إلى الجماعات الدينية في لباس آخر سقطت في الواقع كما في السينما. لكن كثيرا من المتاجرين بالتحليل السياسي والاجتماعي ظلوا على الدرب سائرين لا يتزحزحون عن أوهامهم قيد أنملة في الوقت التي تمكنت فيه التنظيمات "الجهادية" من اختراق كل الطبقات الاجتماعية وكل المناطق الجغرافية دون عناء. وتونس التي ابتليت منذ فرار زين العابدين بنعلي وتسمية ما سبق ذلك ثورة ياسمين، بطبقة سياسية استحلت بلاتوهات القنوات التلفزيونية لاستعراض عضلات ألسنتها تنابزا بالألقاب واستدرارا للمناصب والامتيازات، أرضية خصبة لتنامي المد "الجهادي" من جبل الشعانبي إلى قلب العاصمة ومتحفها "باردو".
عيون الجماعة "الجهادية" مفتوحة كما الشرطة تبحث عن "طرائد جديدة" تقوي صفوفها. وبهتة طريدة مثالية فهو "شجاع، جريء، لا يهاب الشرطة، لكنه ضائع". وفي الوقت الذي تطارده فيه الشرطة لسرقته بذلة رجل أمن من أقربائه لزوم أكسسوارات مسرحية، ويتملص فيه مهرب المهاجرين من التزاماته اتجاهه بعد أن منحه مصاريف تهريبه التي سرقها من جده المريض، يجد بهتة من زعيم الجماعة كل الترحاب وأول الغيت مناداته باسمه الحقيقي شكري.
هنا يلعب المخرج لعبته ويخرجنا من سياق السرد الفيلمي ليدخلنا عالم كواليس التصوير حيث تجمعه نقاشات حادة مع ممثله لطفي العبدلي الرافض للاستمرار في الفيلم المسيء حسب فهمه في البداية لمهنته كراقص يريد زعيم الجماعة تحريمه.
لطفي: من تكون أنت حتى تحرم الرقص؟
نوري: هذا موقف الشخصية وليس موقفي أنا.
لطفي: إلى أين تذهب بي بهذا الفيلم؟ كيف تضعني مع "إخواني" في نفس المشهد ليحرم الرقص؟
نوري: يبدو أن هذا آخر فيلم لي.
في الوقت الذي ينتفض فيه لطفي/الممثل في وجه مخرج الفيلم، يستكين شكري/الشخصية لعملية إعادة تشكيل وعيه وبناء ذاته الجديدة التي يتولاها زعيم الخلية "الجهادية" شيئا فشيئا، أما بهتة فقد صار ضربا من الماضي أو يكاد. مشاهد طويلة انبنت على حوارات أطول كتبت بعناية واستحضرت فيها صور صبرا وشاتيلا وخطب أسامة بن لادن، ومشاهد ذبح الرهائن أيام القاعدة وممارسة الشعائر الدينية صلاة أو قراءة للقرآن، والمشترك لعبة حديدية على شكل إنسان يتلاعب بتشكيلها بطل الشريط وفق هواجسه وانتقالاته الوجدانية من فكر إلى آخر ومن وضع استكانة إلى انتفاضة.
شكري: كيف يعيش الشهيد في الجنة؟
زعيم الخلية: يعيش شابا طوال الوقت وتستقبله ستون حورية على أبوابها.
شكري: كيف يمكنني مقابلتهن؟
زعيم الخلية: أن تغتسل من ذنوبك وأن تقوم بعملية في مستوى عظمة الله.
شكري: وإن فشلت في تنفيذ العملية؟
زعيم الخلية: انس الحوريات.
في "آخر فيلم" راقصون على كل الحبال: على السياسة والدين والفن والحياة. بهتة، الراقص الحقيقي الوحيد هو الضائع بين المسارح تلك.
شكري: أنا راقص واختصاصي الفرجة.
زعيم الخلية: العمليات الفدائية أكبر فرجة يمكن تصورها. كل القنوات العالمية تهتم بها ويتابعها الناس كافة.
لطفي: حولتني من راقص إلى إخواني ثم إرهابي.
نوري: أأنت خائف؟
لطفي: أنت تستغلني وتتلاعب برموزي. لن يتركونا بعد الفيلم. سيكون مصيرنا إما السجن أو أن يُقتل أحدنا.
في أحد المشاهد وبعد أن بلغ التعب مبلغه من المخرج وممثله، يحاول الاثنان التوافق على نهاية تريحهما حيث يموت الممثل في عملية ليتمكن المخرج من استكمال قصة فيلمه مع ممثل بديل. الممثلون ومنفذو العمليات
الإرهابية مجرد قطع غيار تستبدل وقت الحاجة، يتحكم فيها المهندسون الحقيقيون للصراع ومؤججيه. هم مجرد حطب لحرب إيديولوجية بين أطراف تعرف بعضها جيدا وتتقاذف بقطع الغيار وفق أهوائها ومصالحها الآنية والمستقبلية. وليس أبلغ من انتقام المخرج من شخصيته الرئيسية بأن جعله يفجر نفسه وحيدا على مرمى حجر من شاطئ كان يعتبره دوما طوق نجاته تحت أنظار سلطة بوليسية طالما نغصت عليه حياته، وهو الذي كان يسعى لتفجير من جندوه عل ذلك ينقذ شبابا آخرين من أن يلقوا نفس المصير. هو الحلف الشيطاني بين طبقة مثقفة منتفعة وسلطة غاشمة وجماعات موصوفة بالإرهاب يقتاتون جميعهم من الظلم الاجتماعي الواقع على الطبقات المستضعفة ومن تغييب مناخ الحرية على حساب شباب ضائع لا يعدو أن يكون مجرد حطب لمحرقة لا نهاية في الأفق لها.
"آخر فيلم" عمل فني يستحق المشاهدة لكنه لن يغير من الواقع شيئا. فالواضح أن العمليات الانتحارية والهجمات المسلحة صارت أمرا واقعا في أوطاننا. وعندما يحمل مخرج يعلن في حواراته "أنه ملحد عن قناعة" مسؤولية إقناع الشباب المسلم بأن رسالة محمد بن عبدالله رسالة سلام ونبذ للعنف والتطرف، فإننا نفهم أسباب فشل هذه الأعمال في الوصول لغاياتها بل تغذيتها للكراهية والتطرف بعد أن تملأ جيوب صانعيها أموالا وجوائز ورحلات مجانية عبر مهرجانات الدنيا.
مباشرة بعد فوز "آخر فيلم" بجائزة مهرجان قرطاج، تعرضت تونس لعملية إرهابية. وحين عرضت التلفزة الرسمية التونسية الفيلم بداية شهر مارس الجاري، عاشت البلاد على وقع هجوم متحف باردو...
تحاول أم بهتة منع ابنها من الخروج من البيت بعد أن علمت بما يريد الإقدام عليه.
بهتة: لقد اختارني الله يا أمي. ابنك مجاهد يا أماه، زغردي! لم تريدين حرماني من الجنة يا أمي؟
لم يعلم بهتة أن "الجنة تحت أقدام الأمهات".
ouchen_tarik@yahoo.fr