لأشهر خلت، كان قدر عبور "طريق الموت" خياراً لا بديل عنه إن كان لا بد من دخول حي
جوبر أو مغادرته.. وإن كان لا بد من الموت فالتكهن بين قذيفة 57 ملم من منطقة "8 آذار" أو صاروخ فوزديكا من جبل قاسيون، وهو آخر ما يتمناه المرء لموت شبه حتمي على طريق تقع تحت مرمى النيران من الجهات الأربع.
هذا هو الحال مع مع عبّارة (نفق للمشاة) "بيادر جدية"، بوابة
الغوطة الشرقية على
دمشق، ونافذة حي جوبر المحاصر على العالم، قبل إحالة الطريق إلى "التقاعد"، وفتح ممرات أخرى أكثر أمناً وأقل خسارة من طريق الموت الذي ودّعت عليه جوبر أكثر من نصف شهدائها.
والممر الجديد كناية عن خندق عميق وطويل أمّنته الفصائل المقاتلة، يمر من تحت طريق دمشق حمص الدولي (المتحلق الجنوبي) الذي تسيطر عليه قوات النظام السوري، ويشكل فاصلاً طبيعياً بين الحدود الإدارية لمدينة دمشق وريفها الشرقي.
ضحايا العبّارة
مجاهد معتوق، أحد الشبان المتطوعين في فرق الدفاع المدني في الغوطة، يروى لـ"عربي21"، استهداف مدفعية الفرقة الرابعة للمعبر خلال ربيع 2014، بعشرات صواريخ أرض - أرض، متسببة بمقتل العشرات من المدنيين والثوار، كما تسببت في الوقت ذاته بتدمير دبابتين متمركزتين فوق المعبر تابعتين لقوات الأسد.
يقول معتوق لـ"عربي21": "لم تترد القوات الحكومية في قصف المعبر حين عجزت عن السيطرة عليه، كانت مدرعات النظام لا تزال متمركزة في أعلى الطريق والجنود مطمئنون أنهم لم يقصفوا من الجبل".
ولطالما شكّلت "العبّارة" حلقة الوصل الأقوى في طوق المناطق الثائرة حول العاصمة، فإن قوات النظام لم توفر فرصة في مهاجمة المنطقة لتقطيع أوصالها، تارة بالحشد وتارة بالقصف الشديد، وهو ما "جعل من الطريق أكثر المواقع احتداماً (..)، وأطلق عليه أبناء المنطقة طريق الموت، لكثرة من سقط من ضحايا خلال عبور الطريق" يقول معتوق.
في 16 نيسان/ أبريل 2013، انتظرت أم محمود ولديها القادمين من الغوطة الشرقية بعد غياب طويل، غير أن قدرها كان أن تستقبلهما بملابس الحداد بعد استهدافهم بقذيفة فوزديكا من جبل قاسيون مع ثلاثة من رفاقهم.
لم يكن محمود ومحمد نور الدين الحمصي ورفاقهما إلا جزءا من قافلة طويلة من "شهداء عبّارة بيادر جدية"، فلم يكن لديهم خيار أفضل بسلوك طريقٍ أكثر أمنا، فغامر البعض متسلحاً بالقدر وأُرغم البعض بضغط الظروف الصعبة، لكن أغلب العابرين نطقوا بالشهادة وودعوا أحبتهم وسلكوا الطريق بسرعةٍ تسابق القذائف.
ممرات آمنة:
أصيب يحيى (17 عاماً) بضع مرّات خلال تنقله بين حي جوبر والغوطة الشرقية، بشظايا القذائف التي تستهدف طريق الموت، وبات معروفاً في الجوار بلقبه الجديد الذي لم يبدُ محبباً إليه: "أبو سبعة أرواح"، لما نال من شظايا في أنحاء مختلفة بجسده.
خطورة العبّارة دفعت بيحيى للسعي إلى ابتكار طريق بديلة، مستفيداً من معرفته بمواقع سقوط القذائف، واتجاه سيرها ومواقع إطلاقها التقديرية، فحدد طرقاً آمنة بديلة بين الأزقة والبيوت والخنادق، وضعت نهاية لطريق الموت.
الطرق البديلة طويلة نسبياً، غير أنها مأمونة.
وبروحٍ من الدعابة، يخفف يحيى من ألم عمته التي ودعت أحد أبنائها على طريق الموت: "فتحت ممراتٍ آمنة كما طلب بان كي مون، وسأفرض حظراً جوياً على نظام الأسد في وقتٍ قريب".
ذكريات يحيى مع طريق الموت سيئ الذكر؛ لا تمنعه من التأمل ملياً، والتساؤل عن عدد المرات التي قطع خلالها الطريق. يتساءل يحيى بعد برهة من الصمت: "هل يعقل أن تكون خطوات الهارب من الموت أسرع من القذيفة؟.. ربما نعم".. يجيب الفتى الذي جنّب عشرات المدنيين خيار "عبّارة بيادر جدية" القاتل.