انّ المصطلح الأكثر شيوعا في عصرنا هو الدّيمقراطية "وصفة سحرية لكلّ المشاكل والمسائل" شعار استهلك حتّى استنزف في دول الميتروبول وانتقلت عدواه إلى الأطراف في صيغ محرّفة ومشوّهة. لهذا ارتأيت أن ألقي مساحة من الضّوء على عتمة هذا المفهوم خاصة في عالمنا العربي "الدّيمقراطي" حتّى النّخاع، وأحاول قدر جهدي تبيان الفرق بين الدّمقرطة بما هي مسار يتوجّب علينا نحن العرب ركوب موجته و"الديمقراطية" كمفهوم مسقط لم نستوعب كنهه بعد ويظلّ تحقيقه رهين هدم الأصنام التّي أناخت بكلكلها على العقل العربي، وهي العقيدة والقبيلة والغنيمة بتوصيف مفكّرنا الرّاحل محمد عابد الجابري.
هل كان أفلاطون "أبو الدّيمقراطية" ديمقراطيا؟
الدّيمقراطية هي نظام سياسي أبدعه العقل الفلسفي اليوناني وهو اشتقاق من كلمتين "ديموس" التّي تعني "الشعب" و"كراتوس" التّي تعني "الحكم" ورغم مثالية الطّرح يقرّ أفلاطون بالنّقص الذّي يكتسح بنية المفهوم حين يعترف أنّ الدّيمقراطية هي "أفضل النّظم الفاسدة" وبالتّالي فهذا الجنين اليوناني كان حاملا لتشوّهات ملازمة منذ الولادة.
إنّ أفلاطون يصرّ على عدم تعميم قيمة المساواة بين جميع النّاس ويحصر التفكير والمشاركة في الشّأن العام والحكم في فئة معيّنة وهم النّبلاء والأحرار في حين أنّه على العبيد العمل البدني والجسماني وهذا الفصل بين الحرّ والعبد وبين العقل والسّاعد قد ساهم في انتصار للمجتمع الطبقي على المجتمع المساواتي من داخل بنية الدّيمقراطية نفسها فكانت بهذا المعنى حاملة لنقيضها داخلها.
بسبب هذا الموقف الأفلاطوني تمّ اتهام صاحب كتاب "الجمهورية" في مجمل قراءات الفلسفة السياسية على مرّ العصور بمعاداة الديمقراطية والتّشابك والاشتباك مع قيمها ما عدا بعض المواقف المتزنة وأخصّ بالذّكر موقف الفيلسوف الفرنسي آلان باديو الذّي قام بمراجعة الشّرط الأفلاطوني للحكم وهو "الحكمة" مقرّا بضرورته وهذا الشّرط يتلخّص في قدرة الفلاسفة على التّحرر من ربقة الأنانية والأهواء الخاصة وتعميم هذا المبدأ على من هم أقلّ منهم "حكمة" حتّى تكون مشاركتهم وإشراكهم وتشاركيتهم ذات فائدة.
في تقديري.. هذا الموقف الفلسفي الأفلاطوني هو جوهر المسألة التّي أروم تحليلها وأعني تسبيق وتقدمة الدّمقرطة على الدّيمقراطية رغم أنّ المصطلح الأوّل démocratisation حديث الولادة فإنّ مدارات الفلسفة الأفلاطونية كانت تحوم حوله.من هنا علينا أن نهيأ العقل العربي للديمقراطية قبل الحديث عن الديمقراطية كواقع موجود في سياق إقرارنا بالعجز، عجزنا على تبني الدّيمقراطية في وضعنا الحالي،وضع الانسداد التّاريخي منذ محنة ابن رشد والقطيعة الابستيمولوجية مع اللّحظات المشرقة واللّمعات العارضة في تاريخنا العربي الإسلامي. وحتّى لا تتحوّل الدّيمقراطية إلى شعار أجوف تلوكه بعض الألسنة الببغاوية علينا أن نخوض تجربتها وحينها سيكون المجال متاحا لتوليد المفهوم وإنتاج الشّعار بمنهح المفكّر المغربي عبد الله العروي.
موجة ديمقراطية ثالثة في الغرب والعرب يسبحون وراء الموجة
لفت انتباهي كتاب صموئيل هانتنغتون صاحب صدام الحضارات وهو الكتاب الصّادر سنة 1991 تحت عنوان "الموجة الثّالثة: نشر الدّيمقراطية في نهاية القرن العشرين".
ما شدّني هو التّقسيم المرتكز على المدد، حيث يقسّم هنتنغتون تعميم الدّيمقراطية في القرن العشرين الى ثلاث موجات: بدأت الموجة الأولى في العشرينيات من القرن 19 واستمرت ما ينوف على قرن إلى سنة 1926 مع اتساع حقّ التصّويت لشريحة كبيرة من الذّكور في الولايات المتحدة وقد بلغ عدد الدّول الدّيمقراطية بمقاييس هنتغتون 29 دولة خلال هذه الموجة الأولى. أمّا الموجة الثّانية فقد انطلقت بعد دحر الأنظمة الفاشية وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثّانية. أمّا الموجة الثّالثة فقد عرفتها مرحلة السّبعينيات من القرن المنصرم.
إنّ هنتنغتون يؤكّد مقولة الاستثناء الغربي فيما يتعلّق بالدّيمقراطية فالعرب كانو ولا زالوا وراء الموجة غير قادرين على ركوبها،وكان من المنتظر أن تكسر الثّورات العربية أسس هذا البراديغم الغربي وتحمل بشائر موجة ديمقراطية رابعة لم يستطع هنتغتون التنبؤ بها، غير أنّ معاول الثّورة المضادة اشتغلت هدما و تحطيما لروافع أي مشروع ديمقراطي عربي جامع من موريطانيا إلى اليمن يفكّ الارتباط مع مقولة الاستبداد الشّرقي التّي نظّر لها "ماكس فيبر" ومن بعده "كارل فدفوغل".
العرب وفكّ الارتباط مع الدّيمقراطية
لطالما كانت علاقة العربي بالدّيمقراطية بالأساس علاقة شعاراتية فكثيرا ما نجد أحزابا سياسية في شتّى الأقطار العربية لا تخلو تسميتها من لفظ "الدّيمقراطي" وبعضها وصل للحكم وارتكب المجازر والفضاعات تحت مظلّة الديمقراطية وشعاراتها.
العيب ليس في الدّيمقراطية كنظام سياسي يعدّ رغم هنّاته الأفضل بالمنطق الأفلاطوني بل العيب في طبيعة الممارسة السّياسية وفي شكل السّلطة في
العالم العربي القائم على التّوريث.حتّى ما نسمّيها بالأنظمة الجمهورية انقلبت إلى جملكيات. فإمّا أن يورّث الرّئيس نفسه الكرسي عبر التّلاعب بالدّستور وتمديد وتمطيط مدّة حكمه تحت مسمّى انتخابات صورية شكلانية، أو أن يورّث الحكم في أحد أبنائه مثلما فعل حافظ الأسد مع بشّار.
الإشكال هنا في بنية العقل العربي والشّبق الغريزي للسلطة وقلّما سمعنا برئيس عربي تنحّى عبر انتخابات نزيهة وشفّافة،غالبيتهم يلتصقون بالكرسي ولا يراوحون مكانهم إلّا عبر الانقلاب أو الثّورة فالعقل السّياسي العربي مجبول على الغنيمة والسّلطة هي ضالّته الأخيرة .
في هذا السّياق يذكر الأستاذ عزمي بشارة في كتابه طروحات عن النّهضة العربية المعاقة أنّه منذ استقلال البلدان العربية طرحت ثلاثة بدائل جماهيرية قادتها نخب سياسية حزبية: قومية ويسارية وإسلامية، لم تكن أي منها ديمقراطية "لا نظام عبد النّاصر كان ديمقراطيا، ولا المعارضة الإخوانية المنظّمة ضدّه كانت ديمقراطية. النّظام في السّودان لم يكن ديمقراطيا، ولا المعارضة الشيوعية المنظّمة ضدّه كانت ديمقراطية. لا البعث العراقي كان ديمقراطيا،ولا المعارضة الشيوعية، وكلاهما كان أقلّ انفتاحا وليبرالية من النّظام الملكي الذّي حكم العراق قبل الثّورة.
في الدّمقرطة والدّيمقراطية في العالم العربي
الطّريق إلى الدّيمقراطية ليست مفروشة بالورود، تحدوها مطبّات وعراقيل تعيق سيرها الطبيعي.. دمقرطة العالم العربي تحتاج ردحا كبيرا من الزّمن مثلما حدث في أوروبا.
في الغرب الدّيمقراطية ليست جسما نيزكيا ساقطا من السّماء بل هي مسار متشعّب ودمقرطة العالم الغربي لم تتمّ بين عشية وضحاها بل احتاجت قرونا لتترسّخ. في إنكلترا لم يمنح حقّ التّصويت للشعب إلاّ على مراحل حيث كان هذا الحقّ في عهدة النّخب الثّقافية والسّياسية والصّناعية ثمّ وقع تعميمه على بقية الشّعب على مدار قرن ونصف وفي فرنسا لم تمنح النّساء حقّ التّصويت إلّا سنة 1946 في عهد الجنرال "ديغول".
أمّا في عالمنا العربي: فبمجرّد تنظيم انتخابات وفرز الصّناديق واختيار المرشّح الفلاني فإننا ندعّي الدّيمقراطية؟
الدّمقرطة في معانيها الشّاملة أوجب للعالم العربي ونعني بها رفع منسوب الوعي لدى جماهيرنا فديمقراطية الصّندوق لم تنجب إلّا الغلاة أو الطّغاة وليسوا هم من نصّبوا أنفسهم بل نحن من نصّبهم.
أهمّ شيء النّسبة لنا اليوم كما يقول هاشم صالح، "ليس الدّيمقراطية بل الانتقال من حكم التّعسّف والاعتباط والاستبداد إلى حكم القانون المطبّق على الجميع، والذّي يحفظ حقوق النّاس. أهمّ شيء هو بناء المؤسسات التّي تطبّقه. ينبغي أن يوجد قانون ينطبق على الجميع بالتّساوي. وينبغي أن توجد مؤسسات تطبّق هذا القانون على الجميع، لا فرق بين كبير وصغير، أو غني وفقير، أو متديّن وغير متديّن، أو ابن الأغلبية وابن الأقليّة أو ابن رئيس الدّولة وابن عامة الشّعب، الخ... كلّهم واقعون تحت حكم القانون أو ينبغي أن يكونوا. بعدئذ تجيء الدّيمقراطية على مراحل".