المتابع لخارطة وسائل
الإعلام في
العراق يجد تمايزا واضحا، تمايزا سنيا شيعيا، تمايزا عربيا كرديا، بل حتى تمايزا واضحا للأقليات التي تسكن أرض الرافدين.
وسائل الإعلام في العراق شهدت انفتاحا غير مسبوق انطلق إبان الاحتلال الأمريكي للعراق، وفي ذلك الوقت بدأ الأثير العراقي يزدحم بموجات تلونت بالطائفية، وتراقصت على صوت كره الآخر ورفضه.
ولعبت الحكومات المتتالية في العراق -بممارساتها الطائفية والإقصائية- دورا كبيرا في تغذية هذا الإعلام الطائفي.
فقناة العراق الرسمية "العراقية"، التي يفترض أن تكون ناطقة باسم الشعب، أصبحت ناطقة باسم الحزب الحاكم وملمعة له، ورافضة لكل اتجاه آخر، وإن كان مشاركا في العملية السياسية، بل وحتى رفضت أصوات شركاء المذهب الذي تنتمي له، وركزت في برامجها على اعترافات معتقلين من لون واحد، متهمة معظمهم زورا بالإرهاب والقتل، وعند كشف بعض الحقائق قضائيا تبين أن الأمر يقف خلفه الإقصاء السياسي والطائفي.
قنوات أخرى خاصة لم تكن بعيدة عن نهج الصوت الرسمي، فإحدى القنوات التي تبث من خارج العراق، وعندما تقف على برامجها، تجد النفس الطائفي في توجهها، رغم المحاولات لإضفاء الخطاب الوطني المتكلف من مقدميها، فوصف المليشيات التي تصول وتجول في الكثير من مدن العراق بالأوصاف الوطنية، مقابل التخوف الذي تبديه من فوهات بنادق العشائر التي تقاتل تنظيم الدولة إذا ما استتب الأمر لها، وكأن فوهات سلاح المليشيات يصب في صالح العراق.
كما تروج هذه القنوات أن الخطاب الديني يجب أن يبتعد عن مؤسسات الدولة، وتقصد بذلك الخطاب الديني السني، في حين تبارك فتاوى المرجعية الشيعية، وتعدّها الحل الأمثل لوحدة العراق.
كذلك تعيب على المسؤولين
السنة تحركاتهم الشعبية والسياسية والعسكرية المتداخلة مع بعض، وتدعوهم إلى فك الارتباط فيما بينهم، في حين نراها تمجد بالعمامة الشيعية التي تمارس السياسة.
التناقض الطائفي في تناول قضايا المجتمع كان سمة بارزة في الإعلام العراقي، فالكثير من القنوات حاربت الحراك الشعبي السني، ووصفته بكل ما تستطيع من أوصاف التبعية للخارج، وارتباطه المشبوه، ووقوف تنظيم الدولة خلفه، وفي الوقت ذاته دافعت عن المظاهرات التي جرت في دولة البحرين دفاعا مستميتا، لأن اللون المذهبي في الأول مختلف، وفي الثاني متشابه.
وبالمقابل تمارس بعض القنوات التي تدار من تجار سنة الدور ذاته، ولكن تركز صوتها وصورتها على المخالفين في الاتجاه لها، فإحدى هذه القنوات خطها الأحمر هو مالكها وممولها، في حين تصب جام غضبها زورا وبهتانا على شخصيات وأحزاب تختلف معها في المصالح، ولطالما عرضت هذه القناة على شاشتها الصفراء اعتذارات أجبرت عليها، لأنها سبت وشتمت وافترت على الآخرين، وبالتالي فقدت مصداقيتها من جهة، واحترامها أو تأثيرها من جهة أخرى.
واقع الإعلام العراقي أصبح يمثل انعكاسا حقيقيا لطبيعة الصراع على السلطة في العراق.
فالتمزق السياسي العراقي السني الشيعي والسني السني والشيعي الشيعي والعربي الكردي قد تمثل جليا في الإعلام الذي يخدم كل جهة، بغض النظر عن حقيقة ما يجري على الأرض.
بل أصبح مدراء ومؤسسو عدد من القنوات العراقية عبارة عن "تجار إعلام" و "تجار سياسة" يوجهون الرأي العام حسب المد والجزر في الابتزاز السياسي والمالي الذي يمارسونه على الشخصيات والأحزاب الحكومية والشعبية.
وليس سرا أن إحدى أكبر القنوات العراقية، التي تدعي أنها مستقلة وليبرالية، تمارس ابتزازا قذرا على جميع الكتل والشخصيات السياسية الفاعلة في العراق، فملايين الدولارات التي يتم الحديث عنها داخل الغرف المغلقة والفنادق الفخمة يمكن أن تطيح بأحد الوزراء أو النواب أو يمكن أن تثبته.
وقناة أخرى بدأت مسيرتها ليبرالية مستقلة، ولكن ما لبثت أن باعت نفسها للمسؤول الأول في العراق، وتحولت إلى التسبيح بحمده، وبإنجازاته التي لم ير منها الشعب العراقي إلا الدمار والطائفية.
فالقيم الصحفية والإعلامية أصبحت كلاما فارغا أجوفا يتغنى به معظمهم، في حين أن الذي يحكم دفة الأمر هو المال السياسي الفاسد.
وأصبح استثمار الإعلام في خدمة المصالح الشخصية أولا ثم مصالح الطائفة أو الحزب هو النجاح الحقيقي التي تراه المؤسسة نجاحا لها.
خلط الأوراق واستثمار المصالح السياسية والتركيز على أجندة الفتن أصبحت الهم الأكبر للعديد من هذه القنوات.
فتاوى الدم والفوضى والتحريم والتحليل، التي شكلت الحياة السياسية في العراق منذ 2003 وإلى الآن، انعكست على الإعلام بصورة فجة، سوقت من خلالها هذه الفتاوى إلى جمهور عريض من متابعيها.
الخلط الكبير بين حقوق الطائفة وبين الإعلام الطائفي أصبح السمة الأبرز في الإعلام العراقي، فالقنوات التي تجاوز عددها الأربعين، والتي تمثل لونا واحدا طائفيا، استطاعت شحن شارعها بالتعدي على حقوق المكونات العراقية الأخرى، وتغذية ثقافة الكره ورفض الآخر.
أخيرا نقول، إن وسائل الإعلام التي تؤثر بشكل خطير على حياة الناس، وتشكل آراءهم واتجاهاتهم، لا بد لها من المساهمة في إطفاء النار، لا في صب الزيت عليها.
وليضع إعلامنا بين يديه دائما ما يردده خبراء الإعلام والاتصال، وعلى رأسهم "والتر ليبمان" الذي يؤكد أن وسائل الإعلام فاشلة دائما في توجيه الجماهير كيف يفكرون، ولكنها تنجح دائما في إبلاغهم عما يجب أن يفكروا فيه.