كتاب عربي 21

في صلب حادثة "شارلي إيبدو"

1300x600
"لكي يستطيع المركز أن يقود الجوقة فعلاً؛ فإن من الضروري أن يعرف بدقة من يلعب على كل كمان وأين، وكذلك من يلعب على أية قطعة أخرى، وأين تعلم أن يعزف، وأين يتعلم أن يعزف، ومن يعزف خطأ: أين ولماذا، ومن يجب أن ينتقل: كيف وأين، وذلك من أجل تصحيح النشاز"، هكذا يرى "لينين" حزبه الحديدي، وهكذا يتصرف البعض من العرب والمسلمين مع 1.6 مليار مسلم، بحسب إحصاء عبد الفتاح السيسي، وبحسب منطقه أيضًا.

بمعنى أن قسطًا وافرًا من المواقف المنددة بمثل حادثة "شارلي إيبدو" في باريس أخيرًا، يتجه إلى مخاطبة المسلمين، وكأنهم ينضوون في حزب حديدي واحد، على غرار الحزب اللينيني، حيث يكفي لتجنب مثل هذه العمليات أن يتمتع المركز بالمعلومات الكافية، ومن ثم منع هذه العمليات، فإن لم يمنعها، فإن هذا "الحزب- أمة المسلمين" مدان بالكامل بما يستغرق كل أفراده، باستثناء هؤلاء الذين يفيد مفهوم خطابهم بأنهم وإن كانوا مسلمين، فإنهم ليسوا من حزبها الحديدي هذا، وإنما الطليعة التنويرية المحمّلة بقيم الحداثة الغربية في مواجهة حزب الـ 1.6 مليار مسلم!

يمكن استنتاج هذا التصور الخرافي من محددات خطابات الإدانة السائدة؛ ليس فقط من تلك التي تتصور بالفعل مركزًا متحكمًا بأمة مئات الملايين هذه، وإنما أيضًا من الاتجاهات التحليلية التي تسقط كامل أبعاد الحدث، وتطمس كل السياقات الضرورية للفهم، لتقدم نقدًا فائضًا بالهذيان، ينتهي به الأمر إلى الاحتياج فعلاً إلى مركز يقتنع ثم يلزم كل أعضاء وفروع الحزب بالقناعات الجديدة!

بمعنى أن ثمة من يفترض وجود مركز متحكم بكل المسلمين بلا استثناء، إلا من تحرر من هذا المركز، وهذا المركز في هذه الحالة، هو عقل ميتافيزيقي ينتظم المسلمين جميعًا ويُخرج من بينهم تلك الأفعال الموصوفة بالإرهاب بحسب تصنيفات سياسات القوة المتمثلة بالإمبريالية الغربية.

وثمة تعريفات متعددة لهذا العقل، منها تعريف عبد الفتاح السيسي الذي حدده بالنصوص المقدسة التي تدفع 1.6 مليار مسلم لقتل "الدنيا كلها"، وبتعبير آخر له، فإن "الأمة هذه بالكامل هي مصدر القلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها"، وبهذا فإن عبد الفتاح السيسي لا يمكن تنصيفه كإرهابي وقاتل ومجرم، حتى لو قتل آلاف الأبرياء بواسطة قوة مسلحة ومنظمة يجري التحكم بها مركزيًا، ومن بين هؤلاء الأبرياء الذين قتلهم وسجنهم واغتصبهم صحفيون وضحايا الرأي والاختلاف السياسي.

هذا الخطاب الاستشراقي يفترض وجود عناصر جوهرية تطبع تفكير المسلمين وسلوكهم بـ "الإرهاب"، بما يجعلهم في النهاية شيئًا واحدًا، وفقط فإن تبني القيم الغربية المهيمنة التي تستند إلى سياسات القوة هو الذي يميز بعض المسلمين عن 1.6 مليار "إرهابي مسلم"، وبهذا لم يكن عبد الفتاح السيسي مدانًا طالما أنه يقوم بإدانة "المركز- النصوص المقدسة"، ويقوم بدوره في سحق من تطالهم يده من "إرهابيي الـ 1.6 مليار مسلم"، أما نتنياهو الذي شارك بمسيرة باريس "المنددة بحادثة «شارلي إيبدو»، المعظمة للحياة الآدمية، المبجلة لحرية التعبير" فلا تنطبق عليه أي من أحكام الإدانة ما دام ليس مسلمًا، حتى لو كان قد فرغ للتو من قتل 2310 فلسطينيين في عدوانه الأخير على غزة.

المشكلة إذن في أن هذا الخطاب الاستشراقي مُسيَّس، يوظف نفسه في الأساس أو يعاد توظيفه، في خدمة السياسات الغربية الإمبريالية، بينما تعيد الأدوات الغربية داخل مجالنا العربي والإسلامي توظيفه لتبرير الاستبداد وقتل وقمع الملايين من العرب والمسلمين، وهو ما يجعل هذا الخطاب الاستشراقي سواء اتخذ شكلًا أكاديميًا أو فنيًا أو إعلاميًا أداة حربية ضد المسلمين، وعملاً عنصريًا تحريضيًا ضد المسلمين أيضًا.

وهذا بصرف النظر عن النقاش حول المعايير التي تعيّن الحد الفاصل بين حرية التعبير وبين التحريض العنصري، ولماذا يعدُّ التحريض العنصري ضد دين معين وأتباعه (هو الإسلام وأتباعه في هذه الحالة) داخلاً في حرية التعبير، أو عملاً نقديًا محترمًا، بينما لا يكون الأمر كذلك حين التحريض على عرق أو دين آخر (مثلاً اليهودية سواء اعتبرت قومية أو دينًا)، ولماذا على المسلمين القبول بقيمة حرية التعبير ضمن الإطار المفاهيمي والمصلحي الغربي وتقديمها على قيمة احترام المقدسات الدينية، ولماذا على كل مسلم أن يفهم رسوم الصحيفة المذكورة بأنه عمل نقدي تكفله الديمقراطية، وليس عملاً تحريضيًا ينمِّط المسلمين في صورة مشوهة ثم يردُّ هذه الصورة إلى نبيهم أو قرآنهم... الخ.

ثمة حديث إذن لا يكتفي بالدعوة إلى تغيير عقائد المسلمين، وضبط أفعالهم، بل يذهب إلى ضرورة هندسة مشاعرهم الدينية وفق معايير فوقية مفروضة عليهم، وكأن المشكلة إذن في (المركز)، وبالتالي يمكن لهذا المركز أن يوزع الأدوار على كل الأفراد، فيعلم قطاعات منهم الرسم للرد على الرسم بمثله، وأخرى الإخراج السينيمائي للرد على فيلم بفيلم مضاد، وهكذا... أليست هذه مقترحات شديدة الهذيان، وهي تتحدث عن أمة ممزقة، ومنكسرة، ومأزومة، وتفتقر إلى كل أشكال الوحدة والقوة، وتعتقد أن الغرب كان ولا يزال السبب الأساسي في مأساتها، وتعيش سيولة منفلتة هائلة، وتعاني صراعًا داخليًا عنيفًا وعميقًا يكشف عن حجم التدافع الكبير داخل الأمة نفسها وهي تحاول تلمس طريقها، وتحقيق ذاتها، والتخلص من الهيمنات الاستعمارية وأدواتها المحلية؟! فكيف والبعض يفترض إمكانية أن يرى جميع أفراد المسلمين السخرية من نبيهم، صلى الله عليه وسلم، عملاً نقديًا لا ينبغي أن يستثير مشاعرهم الدينية؟! 

حينما تحسم الأمة مشكلاتها، وتقف في موقع القوة والهيبة والندّ، وتفرز ممثليها الذين يعبرون عنها بصورة صحيحة، فإن أفراد هذه الأمة سيكفّون عن الشعور بالمهانة، وستكون ردود أفعالهم على هذا النوع من أشكال الازدراء ومحاولات الاستفزاز مختلفة بالضرورة.

إن كشف التوظيف الاستعماري للقيم الغربية، وأخذ مثل هذه الحوادث في أبعادها المتعددة، وحتى حين إرادة إدانة هذا النوع من الأفعال، ضرورة للفهم، وأيضًا كي لا يتحول بعضنا إلى أداة استعمارية غافلاً أو قاصدًا.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع