انتهت الانتخابات البرلمانية والرئاسية
التونسية إلى عودة الحزب والنخبة التي ثار عليها الشعب من قبل، ويبدو المشهد وكأن ما تحقق لا يزيد على نجاح الإطاحة برأس النظام القديم، وتسليم الحكم إلى وجه جديد من ذات التعبير السياسي والاجتماعي للنظام القديم.
غير أن الأمور ليست كذلك، ولا تحتاج إلى تلك الحالة من الغضب، وربما اليأس الذي يجري التعامل به في كثير من الكتابات والبرامج الحوارية.
لقد اختار الشعب التونسي الأفضل له ولتونس وتجربتها الثورية في تلك الأجواء الماطرة بالغم والهموم والانقلابات الإقليمية والدولية، ولو كانت قوى الثورة هي من وصلت للحكم الآن وسيطرت، لكانت تجربة الثورة ذاتها قد أصبحت تحت تهديد الفشل الحقيقي الذي يعرقلها لعشرات السنين.
ولإدراك تلك الحقيقة ليس علينا إلا معرفة نقيض ما حدث، فنحن لا نعرف الأشياء بالعين أو العقل أو النفس إلا برؤية نقيضها.
فلو فاز المعبرون عن الثورة في ظل ما خربه النظام السابق ووسط الأوضاع الإقليمية الراهنة، وعنوانها غياب دولة كبرى داعمة للثورة مع وفرة في الدول المعادية لها، ولو فازوا في ظل هذه الأوضاع الدولية وعنوانها صراع ضار على الدول الصغرى وموقف موحد ضد الثورات، لكانت النتائج وخيمة على المجتمع والثورة، بل يمكن القول بأن وصول الثوار الآن، لم يكن له من نتيجة إلا الانقلاب عليهم وشدة اختلال المجتمع وتحول تونس إلى ما وصلت إليه غيرها من الدول، وهي دولة يحاصر وجودها بالأحداث الجسام في ليبيا والتجربة المأساوية- العشرية السوداء- التي عاشتها الجزائر خلال تجربتها السابقة في التحول الديمقراطي.
وإذا تصور البعض أن سلمية الانتقال والتنقل في حركة الثورة التونسية، كانت دافعاً يمكن استثماره، فذلك ليس إلا خيالاً، ولو رأت النخب المسيطرة – ومن يناصرها في الإقليم والغرب - أن الأمور ستنقلب إلى ثورة سياسية واجتماعية شاملة تطيح بالنفوذ الغربي، لتحول الأمر إلى ما تحولت إليه ثورات دول الربيع الأخرى.
وقد شهدنا ملمحاً كان يجب قراءته بتدقيق، إذ صار الرئيس الليبرالي – المرشح لولاية ثانية - متهماً جمهوره بالتطرف والإرهاب، وجمهوره المقصود هو جمهور حركة
النهضة التي تحركت ضدها الاتهامات ذاتها.
تونس باختصار لا تستطيع قدراتها كدولة ومجتمع وجغرافيا، أن تمنحها القوة للوقوف وحدها في المواجهة في ظل التوازنات الإقليمية والدولية الراهنة.
هنا لا نحكم بما نحب أو نرغب أو نكره، نحن نحكم على موازين القوى الفعلية على الأرض. والآن يمكن
القول بأن تونس حققت ما يمكن تحقيقه – وهو ليس المأمول بالطبع؛ إذ تراجعت ثورتها خطوات للوراء، لكنها لم تنكسر– ودخلت في وضعية يمكن البناء عليها خلال المرحلة القادمة، أو يمكن القول بأن تونس خرجت بعودة سيطرة النخب القديمة مع بقاء قوة الثورة (القوة الفعلية) على قدرتها، وهي، لاشك، تعلمت دروساً يمكن الارتكاز عليها لتطوير حركة التغيير إلى نمط أعلى في الفترة المقبلة، شرط أن تتوفر الإرادة والفهم لما هو جارٍ، ومتابعة التغييرات الإقليمية والدولية بدقة.
وأول تلك الدروس هو أن التحول الديمقراطي لا يزال متوقفاً قطاره في المحطة التي يمكن أن تنقله إلى ديمقراطية حقيقية، ديمقراطية تسمح بحكم الإسلاميين. وأن الحكومات العربية والإقليمية الرافضة لحكم الإسلاميين لا تزال على درجة من القوة والتأثير، بما يتطلب تنسيقات ورؤى للتغيير في الإقليم، إذ الإشكالية الحقيقية للربيع العربي أنه لم يكن شاملاً لكل الدول، بما أتاح لقوى رفض التغيير ممارسة التأثير في الدول التي شهدت التغيير. وأن الحكم على القوى السياسية ليس بتلك الشعارات البراقة التي ترفعها، فقد انكشفت وجوه كان البعض يتصور أنها لا تساوم على الديمقراطية أبداً حتى لو أتت بمخالفيهم.
ظهر أن كثيراً من تلك القوى والوجوه تتحدث عن ديمقراطية تقصي الإسلاميين، لا ديمقراطية تعددية وتنافسية حقيقية. وظهر أن هؤلاء مستعدون للتعاون مع الفاسدين ورجال الغرب إذا كانت نتيجة اللعبة الديمقراطية وصول الإسلاميين للحكم، أو إذا وصل للحكم من يقبل التحالف معهم من القوى الليبرالية أو الوطنية الأخرى، فالعداء للإسلاميين والإسلام أعلى عندهم من القيمة الإيجابية للديمقراطية.
وقد ظهر للجميع أن معركة الديمقراطية لا يمكن فصلها عن معركة الاستقلال الوطني، وأن خصم القوى الوطنية والديمقراطية والإسلامية هو الغرب المتعاونون معه، وليس عملاءه في الداخل فقط.
(صحيفة بوابة الشرق)