يشعر الفتى أحمد أبو الجديان، في كل مرة تلمس فيها أنامله، النقاط البارزة في كتابه المدرسي، بأنه غادر عالم الظلام الذي يعيش فيه، وأن قتامة اللون الأسود الذي يمثل حياته، تحولت إلى ألوان زاهية.
فتلك الحروف البارزة، المكتوبة على طريقة برَيل، تجعله متحررًا من قيود الإعاقة البصرية التي يعاني منها منذ ولادته، وتعيد لعيّنيه نورهما، وتمنحه إحساسًا بقيمة ذاته.
ومنذ أن التحق الطالب الكفيف "16 عامًا"، الذي بدت على ملامحه علامات الثقة بالنفس، بمدرسة النور والأمل الثانوية للمكفوفين، الوحيدة في قطاع
غزة، ازداد شغفه في السعي وراء حلمه.
ويقول أبو الجديان، وهو جالس على مقعده الدراسي: "التحاقي بهذه المدرسة منحني أملا أكبر بإكمال مسيرتي التعليمية، وأن حلمي بأن أكون معلم لغة إنجليزية، أصبح قاب قوسين أو أدنى مني".
ويضيف: "حياتنا مظلمة، لكن العلم فقط ينيرها، إنه سلاحنا الوحيد"، واصفًا الساعات الخمس التي يقضيها في المدرسة الثانوية بأنها بمثابة عودته للحياة مجددًا، وأنه بدأ يتعرف على الأشياء من حوله جيدًا".
وبعد أن طبع بمهارة على آلة "بيركنز" ما كانت تشرحه معلمته، قال: "نحن نعيش في حصار، ولا توجد لدينا الإمكانيات والمراكز الخاصة، بشكل كافٍ، هذه المدرسة جعلت أملنا أكبر في أن نكون ما نريد".
وتعتبر مدرسة "النور والأمل"، للمكفوفين، الوحيدة في قطاع غزة، التي تعنى بطلبة المرحلة الثانوية، التي تم افتتاحها قبل نحو عامين، فقد كانت في السابق مخصصة لطلبة المرحلة الإعدادية فقط.
وتطمح أسيل أحمد، الطالبة في الصف العاشر، أن تصبح "أديبة"، يلمع اسمها في عالم الفن والثقافة، كالأديب المصري طه حسين، الذي كان "كفيفا".
وتضيف وهي تطبع بعض الكلمات على جهاز الحاسوب، مستعينةً بسماعات أذن تخبرها ماذا تكتب: "أؤمن بأن لدينا طاقة كبيرة بداخلنا، إن أحسنا استخدامها فلن يعيقنا أي شيء، وفي هذه المدرسة سنفعل ذلك".
وكانت هذه المدرسة سببًا قويًا لأحمد كي يتسع عالمها المحدود، الذي يعتمد على الأصوات واللمس، فمداركها العقلية وقدرتها على تخيل الأشياء ازدادت قوة، كما تقول.
واستدركت أحمد التي شعرت بوجودنا بجوارها دون أن نصدر صوتًا، قبل البدء بمحادثتها: "لقد أصبحت أرسم لكل الأشياء من حولي صورة في مخيلتي، أشعر بالسعادة وأنا أقترب من الأشياء أكثر".
وعاهدت الطالبة الكفيفة، ذات غطاء الرأس الأبيض، بأن تفعل ما في وسعها لمساعدة كل من فقد عينيه مثلها، قائلة: "أريد مساعدتهم جميعًا، وأن يروا العالم بصورة أفضل، كما أصبحت أن أراه".
وبحسب إحصائية لـ الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد الأفراد الذين يعانون من إعاقة بصرية، في قطاع غزة يبلغ 6905 أفراد.
عبد العزيز أبو شعبان، معلم اللغة الإنجليزية في المدرسة، يصف مستوى طلبته بـ "الجيد جداً"، مضيفًا: "أشعر بحبهم واهتمامهم القوي بالعلم، إنهم يريدون تحقيق ذواتهم".
وقال أبو شعبان، المدرس الكفيف أيضًا "نعاني من بعض الصعوبات في توفير الأدوات اللازمة للطلبة، لكن نحاول التغلب عليها قدر المستطاع لإكمال تعليمهم".
وأضاف: "بين جدران هذه المدرسة، تغيرت حياة العشرات من الطلبة
المكفوفين، أتمنى أن تتطور الإمكانيات هنا أكثر من هذا".
ويقول أبو شعبان، إنه التحق بالمدرسة إيمانًا منه بأن هذا نوع من الوفاء وامتداد الرسالة الإنسانية والتعليمية التي تلقاها في ذات المكان، عندما كانت المدرسة مخصصة للمرحلة الإعدادية، ورغبة منه في مساعدة شريحة المعاقين بصريًا.
بدورها قالت مديرة المدرسة، سهير مرتجي، إن طلبتها الذين يبلغ عددهم 92 طالبا وطالبة للعام الحالي، يدرسون ذات المنهاج، المعتمد في المدارس الحكومية.
وأضافت:" يتم تحويل الكتب الدراسية إلى طريقة بريل، للطلبة المكفوفين، أو بصورة منطوقة للطلبة الذين يعانون من ضعف حاد بالإبصار".
وأوضحت أن المدرسة تواجه صعوبات في توفير الورق الخاص بالطباعة على طريقة بريل، مشيرة إلى أن عملية طباعة الكتب تتم سنويًا، لأنها تستهلك وتصبح غير صالحة للاستخدام لعامين متتاليين.
وأردفت مرتجى: "نقوم بطباعة الكتب داخل المدرسة وهذا متعب جدًا، وسنكون أمام معضلة إن تأخر دخول الورق الخاص لذلك".
وأشارت إلى أن المرحلة الأخيرة في المدرسة هي الصف الحادي عشر، ومن ثم يتم دمج الطالب عند وصوله للمرحلة الأخيرة في التعليم في المدارس النظامية، لكن تبقى إدارة المدرسة على تواصل معه، وتوفر له الكتب على طريقة بريل، وما يحتاج من مساعدات لإنهاء الثانوية العامة.
ولفتت مرتجى إلى أن كل طالب كفيف في المدرسة له طابعة خاصة "بيركينز"، لتلخيص الدروس اليومية التي يتلقاها في المدرسة.
وقالت: "هذه الطابعة مكلفة، تبلغ قيمتها ألف دولار أمريكي، ونواجه صعوبة في إدخالها بسبب
الحصار، وحصلنا على معظمها عن طريق التبرعات".
وتابعت: "إذا أصيبت واحدة من هذه الطابعات بالعطل، فلا نجد قطع الغيار اللازمة لصيانتها، وهذا يعيق العملية التدريسية، إنها بمثابة القلم والورقة للإنسان الكفيف".
وهذه الطابعة عبارة عن آلة معدنية، يستخدمها الشخص الكفيف، للطباعة فتخرج الحروف على شكل نقاط بارزة على الورق، وهو ما يعرف بطريقة بريل التي ابتكرها الفرنسي "لويس بريل" عام 1821، لمساعدة المكفوفين في القراءة والكتابة.