لم يكن للحركات والاتجاهات الإسلامية دور بارز في إنتاج ما سمي بالربيع العربي، بل كانت أغلبها تنأى بنفسها عن المشاركة في فعاليات الاحتجاج السلمي على الأنظمة السياسية القائمة، هروبا من تبعاتها الباهظة في حال فشلها، وكانت بعضها ترى في المظاهرات والمسيرات مظهرا من مظاهر الخروج على ولي الأمر، وتأليب العامة عليه بحسب باحثين في شؤون الحركات الإسلامية.
لكن حالة "
الربيع العربي" بما حققته في بداياتها من إسقاط رؤوس أنظمة تربعت على كراسي الحكم لعقود من الزمن، كانت لها تأثيراتها العميقة على الخطاب السياسي السني، حتى أن مؤسسة دينية عريقة كالأزهر تخلت عن اختياراتها الدينية الصارمة في تقرير وجوب طاعة ولي الأمر، وحرمة الخروج عليه، فإذا بها في ظل الربيع العربي، تسعى إلى تأسيس فقه سياسي سني جديد.
كان من أبرز ملامح ذلك التحول في رأي الأزهر وموقفه، أن بناء شرعية السلطة السياسية يتم برضا الشعوب واختيارها الحر، وفي الوقت نفسه إعطاء الشعوب حق مراقبة الحكام ومحاسبتهم، ففي حالة إخلال "الحاكم بأمانة الحكم ولم يقم بالعدل، فإن ذلك يعتبر مسوغا شرعيا للشعوب للمطالبة بإقامة العدل، ومقاومة الظلم.. وأن تلك المطالبات لا تجعلهم خارجين عن الحاكم". وفق بيانات الأزهر ومواثيقه التي أصدرها بعد ثورة 25 يناير.
تأثيرات الربيع العربي، والثورات العربية الديمقراطية طالت أغلب الاتجاهات الإسلامية، وشكلت بحسب الباحث الأردني الدكتور محمد أبو رمان في كتابه "السلفيون والربيع العربي"، "صدمة عنيفة للتيارات السلفية"، التي "لم تكن مشاركة في اللعبة السياسية، بل كان لها موقف سلبي تجاه العمل السياسي والحزبي عموما، مرتبط بتحفظات نظرية وفكرية تجاه الديمقراطية ومخرجاتها".
تأثير الثورات العربية على الخطاب السياسي السني.
كيف يمكن قراءة مدى تأثير الثورات العربية على الخطاب السياسي السني؟ بين يدي جوابه عن السؤال المطروح، شرح الأكاديمي البوسني، المتخصص في دراسة الفكر الإسلامي، الدكتور إرمين سنانوويتش (الذي يُعد دراسة حول الموضوع) طبيعة الاجتماع السياسي الإسلامي بأنه محكوم بخيارين، أحدهما: نظرية طاعة ولي الأمر، والتي أنتجت حالة الاستبداد السياسي، وثانيهما: الخروج على ولي الأمر (بالسيف) وما ينتج عنه من فتنة وقتل.
يتابع الباحث البوسني قائلا: فما أضافته الثورات العربية يتمثل في فتحها الآفاق لمسار ثالث، ألا وهو إمكانية التغيير السياسي من خلال الثورات الشعبية السلمية، ورد الأمور إلى نصابها مرة أخرى، بالرجوع إلى الأمة لاختيار من يحكمها، عبر الانتخابات الحرة والنزيهة، وهو ما يعتبر مسلكا جديدا بعيدا عن المسارين السابقين.
ولفت الدكتور إرمين في حديثه (بحضور "عربي21" إلى أن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر مبني على النظريات وليس على الممارسة والخبرات، فثمة كتابات إسلامية بحثث في "الإسلام والسياسية" وأخرى اعتنت بـ"الإسلام والديمقراطية" وما يتفرع عن ذلك كالتعددية الفكرية والحزبية، لكنه بعد الثورات العربية بدأ يستفيد من تجاربه وممارساته.
ولاحظ الأكاديمي البوسني أن ثمة اهتماما كبيرا في أوساط اتجاهات إسلامية عريضة، خاصة بعد الربيع العربي، بالمنهج المقاصدي، فيما يتعلق بالفكر السياسي والممارسة السياسية، للبحث عن اجتهادات شرعية، تستجيب للتحديات المعاصرة، وتقدم بدائل مقبولة، تلبي حاجات المسلمين في ظل مستجدات الحياة وتطوراتها المستمرة.
تغيرات مصلحية وليست تحولات جذرية
في السياق ذاته رأى الدكتور وليد الروابدة، الباحث في السياسة الشرعية أن تأثر الخطاب السياسي السني بالربيع العربي والثورات العربية كان بنسب متفاوتة، فبعض الحركات والجماعات الإسلامية المتبنية لأفكار ومفاهيم ورؤى متناغمة تماما مع الديمقراطية، والتعددية الفكرية والسياسية، والمشاركة السياسية، لم يطرأ على خطابها السياسي أي تغير أو تأثر، بل وجدت في الربيع العربي فرصة مواتية لتطبيق رؤاها وأفكارها التي أعلنتها من قبل، كما في حالة حركة النهضة التونسية.
يتابع الروابدة حديثه لـ"عربي21" قائلا: لكن تلك الاتجاهات الإسلامية التي لم تكن تحفل بقيم الحريات وحقوق الإنسان، والديمقراطية والمشاركة السياسية، كغالب الاتجاهات السلفية، تأثر خطابها السياسي بالربيع العربي تأثرا كبيرا، وأظهرت اهتماما ملحوظا بتلك العناوين والقضايا، حتى لا يفوتها القطار وتفقد شعبيتها وجماهيريتها في مجتمعاتها المحلية.
ولأن تأثير الربيع العربي لم يكن قاصرا على الاتجاهات والحركات الإسلامية فقط، بل طال كذلك المؤسسات الدينية الرسمية كما في حالة الأزهر، الذي بدأ بعد ثورة 25 يناير وكأنما يؤسس لخطاب سياسي سني جديد، لكنه سرعان ما تراجع عن ذلك بعد الانقلاب المصري، وعاد إلى ما كان عليه في سابق عهده، فكيف يمكن تفسير إقباله وتراجعه؟
أرجع الروابدة ذلك لكون الأزهر مؤسسة رسمية تقف مع النظام الحاكم أيا كان توجهه، ورجال الأزهر يغلب عليهم المحافظة على مصالحهم الشخصية أكثر من أية اعتبارات أخرى، وهذا ما يفسر تقلب الأزهر في الرأي والمواقف، من محرم للخروج على مبارك، إلى تأييد الثورة والانتصار لحق الشعوب، ثم التراجع عن ذلك كله بعد تغلب الثورة المضادة.
وردا على سؤال هل يمكن اعتبار تغير آراء الأزهر ومواقفه تحولات حقيقية في الخطاب السياسي السني؟ رفض الروابدة اعتبارها كذلك، لأنها لا تعدو أن تكون مواقف مصلحية تتوافق مع توجهات السلطة القائمة، موضحا أن التحولات الحقيقية تكون بعد مراجعات عميقة، تصاحبها تغيرات فكرية ومنهجية وعملية، كما حدث للجماعة الإسلامية حينما أعلنت توقفها عن انتهاج العنف بعد مراجعاتها الشهيرة لتعلن بعدها التزامها بالسلمية منهجا وطريقا.
ما مدى صلاحية الربيع العربي لإنتاج التحولات؟
قد يكون الربيع العربي بما حمله من آمال وتطلعات، أغرى اتجاهات إسلامية مختلفة بالانخراط في العملية السياسية الجديدة، طمعا في تحقيق مشاريعها التي لطالما دعت إليها وبشرت بها، ما دفع بعض تلك الاتجاهات لإحداث تغييرات على خطابها السياسي كي يتناغم مع المرحلة الجديدة، لكن كيف سارت الأمور وإلى ماذا أفضت؟
يتفق الدكتور جمال الشلبي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية الأردنية مع ذلك التوصيف، إلا أنه يرى أن الثورة المضادة التي قام بها المشير عبد الفتاح السيسي قلبت الأمور رأسا على عقب، وأفسدت أماني تلك الاتجاهات وأجهضت آمالها، وهو ما يعتبر انتكاسة حقيقية لمشاريعها، خاصة الإخوان المسلمين، بعد اعتبارهم جماعة إرهابية في ثلاث دول عربية لحد الآن.
وحول تحول آراء ومواقف مؤسسات دينية رسمية كمؤسسة الأزهر، وبعض الاتجاهات السلفية كحزب النور في مصر، من تأييد الثورات العربية، وتغيير خطابها السياسي وكأنها أحدثت تحولات كبرى، قال الدكتور الشلبي لـ"عربي21" لا يمكن أن نسمي ما قام به الأزهر تحولات في الخطاب السياسي السني، لأنه كمؤسسة كان ولا زال وسيبقى تحت عباءة النظام السياسي في مصر، وكل ما يصدر عنه يتوافق مع توجهات ذلك النظام، وهو كمؤسسة لا يتمتع بأية استقلالية أو حرية تؤهله للقيام بدور المنتج لخطاب سياسي جديد.
أما حزب النور المصري، فهو بحسب الدكتور الشلبي، أثبت أنه حزب كباقي الأحزاب "الأرضية" الأخرى، قد توصل "ببراغماتيته" إلى حل وسط مع السلطة الجديدة، يضاف إلى هذا أن حزب النور مدعوم من دولة خارجية وهي السعودية، التي تقف ضد الإخوان وتصنفها كجماعة إرهابية، وهو ما أثر على موقف حزب النور من الاستقلالية في الرأي والموقف.
وجوابا عن سؤال حول مدى صلاحية الربيع العربي لإنتاج خطاب سياسي سني جديد، يحرر الأمة من أغلال نظرية التغلب والقهر التي صبغت الاجتماع السياسي الإسلامي بعد مرحلة الخلافة الراشدة؟ شكك الدكتور الشلبي في إمكانية وقوع ذلك، لأن الربيع العربي في ذاته ليس نتاج حالة حراك شعبية خالصة، بل ثمة تساؤلات كثيرة حول محركيه وفاعليه ومن ثم جدواه ونتائجه ومآلاته.
تبقى بين الرؤية المشككة في أصالة الربيع العربي، والتي ترى فيه انعكاسا لحالة الفوضى الخلاقة التي نادت بها كوندليزا رايس، أو إعمالا لمشاريع التقسيم التي دعا إليها برنارد لويس في ثمانينات القرن الماضي، وبين يقظة الشعوب العربية وحراكاتها النضالية المستمرة في ظل الربيع العربي، مساحات واسعة لإحداث تغييرات وتحولات فكرية تفضي إلى انطلاق مشاريع النهضة والتحرر في العالم العربي.