مقالات مختارة

مَن يزعم حماية الأقليات لا يجعل منها دروعا بشرية

1300x600
ما زال الفولكلور الشعبي عند الموحدين الدروز يتغنى ببطولة سلطان الأطرش ودوره في الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي عام 1925. ولكن الموحدين الدروز يجدون أنفسهم اليوم على «مفترق طرق» لتحديد ولاءاتهم، بينما تتمزق سوريا ويحاول الهيمنة تيار متطرف يدعي احتكار الإسلام.. وهذا وضع ما كانوا يتمنون ألا يصلوا إليه أبدا.

إنهم، كأقلية مسلمة باطنية انشقت عن المذهب الشيعي الإسماعيلي، تصرفوا دائما كأقلية تعرف حجمها ومصلحتها، ولم تخطئ في حساباتها المصيرية إلا ما ندر. وحتى بعدما قضى الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز الله على دعوتهم المذهبية في مصر، ثم أجهزت الدولة الأيوبية على الوجود الشيعي الإسماعيلي برمته هناك، أقر الأيوبيون – وهم من الأكراد السنة – للموحدين الدروز بمكانتهم كـ«أمراء حلقة»، أي «أمراء حرب»، على جبل لبنان لشغلهم ببسالة «خط الدفاع الأول» عن المشرق المسلم أمام غزو الفرنجة (الصليبيين).

وفي حين تعرض الموحدون الدروز لاضطهاد كبير في شمال سوريا، تحديدا حلب وأنطاكية، على أيدي أتباع الخليفة الظاهر، ومنهم الدولة المرداسية، وهي دولة شيعية عربية أسسها بنو مرداس من كلاب من هوازن، فإنهم لم ينخرطوا فعليا بمواجهات مذهبية مع المحيط السني الكبير. بل بالعكس، قدرت الدولتان السنيتان الكبيرتان، المملوكية والعثمانية، دورهم القيادي في جبل لبنان واحترمتا امتيازاتهم، كذلك تعامل الدروز بحصافة عند تغير موازين القوى وانقلاب الدول فلم يقطعوا «شعرة معاوية» مع أي من الدول الكبرى المسيطرة على المنطقة.

وعندما ظهر التحدي الصفوي الإيراني للسلطنة العثمانية خلال القرن الميلادي الـ16، وقف الموحدون الدروز سياسيا وقتاليا مع الدولة العثمانية، وكانت زعامتهم يومذاك لأسرة معن العدنانية المتحدرة من ربيعة بن نزار. ثم مع أفول نجم المعنيين ارتضى الدروز العيش تحت إمارة آل شهاب السنة المتصلين بمصاهرة مع المعنيين الدروز. وبعد ظهور الانقسام الجنبلاطي – اليزبكي خلال القرن الـ18 وارثا الانقسام القيسي – اليمني.. تشارك الدروز والسنة ومعهم المسيحيون في هذا الانقسام اللا طائفي.

وظل هذا حال التعايش في لبنان، بحدوده الحالية، وفي سوريا وفلسطين. أما المعارك التي خاضوا أو شنت عليهم فكانت ذات طابع قروي – بدوي. ففي شمال فلسطين خاض الدروز حربين محليتين طابعهما الأغلب الطابع الإقطاعي العشائري لا المذهبي.. الأولى مع أحمد طرباي الحارثي (القرن الـ16م) شيخ الحوارث، والثانية مع ظاهر العمر الزيداني (القرن الـ18) شيخ الزيادنة، ومثل هذه الحروب كانت مألوفة بين القرى والبدو، والأسر الإقطاعية، والحمولات العائلية نفسها، وبالأخص أن الانقسام التاريخي القيسي – اليمني استمر في فلسطين حتى القرن العشرين، بينما انتهى في لبنان عام 1711م.

الشيء نفسه يصدق على ظروف توطن الموحدين الدروز المهاجرين من حلب وجبل لبنان ووادي التيم (جنوب شرقي لبنان) وشمال فلسطين في جبل حوران (محافظة السويداء اليوم). وهنا كان طبيعيا حصول احتكاكات تتصل بالمراعي والغزو بين سكان القرى وأهل البادية، وهذه أيضا ما كان طابعها الغالب مذهبيا. بل على العكس، خاض دروز جبل حوران وسنة سهل حوران جنبا إلى جنب معارك مشتركة ضد الانتداب الفرنسي. وعندما انتشرت الأحزاب والتنظيمات القومية، ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي، انتشرت فروع هذه الحركات بالتوازي في الجبل والسهل معا.

ناحية أخرى جديرة بالتحليل، وهي أن مفهوم «تحالف الأقليات» ضد البحر الإسلامي السني المتلاطم لم يحظَ في يوم من الأيام بأهمية خاصة عند أقليتين اثنتين بالذات في المشرق العربي هما الدروز من الأقليات المسلمة والروم الأرثوذكس من المسيحيين. وما يذكر للأرثوذكس أنه لدى تأسيس متصرفية جبل لبنان رفض زعماؤهم بجنوب شرقي لبنان الانضمام للمتصرفية مفضلين البقاء في ولاية دمشق العثمانية، وأطلق أحدهم عبارته المشهورة «التركي ولا بكركي»، بمعنى أفضل أن يحكمني العثماني التركي على أن يحكمني ابن عمي المسيحي الماروني.

كذلك فإن صراعات الأقليات – المسلمة والمسيحية – على حد سواء كانت في ما بينها حادة جدا، وما كان لها إطلاقا إطار «تحالفي» استراتيجي.. بخلاف ما يروج له البعض، وبالأخص إيران اليوم، في وجه الطرف الجهادي والتكفيري الذي يمثله «داعش» والتنظيمات المتطرفة المشابهة.

فالمسيحيون الروم الأرثوذكس مثلا كانوا حلفاء للدروز خلال مواجهات هؤلاء مع المسيحيين الموارنة في منتصف القرن الـ19، والعداء الإسماعيلي – العلوي في شمال غربي سوريا كان شديدا أدى إلى موجات من التهجير، كذلك ما كانت العلاقات الشيعية – الدرزية على ما يرام بتاتا إبان حكم الأمارة المعنية الحليفة للعثمانيين.

بناء على هذا التاريخ، فإن مناشدة عقلاء الدروز أبناء طائفتهم الإحجام عن تأييد نظام دموي دمّر سوريا وأهرق دماء أبنائها من كل الطوائف، تقوم على عدد من الاعتبارات، أبرزها ما يلي:

ـ الاعتبار الأخلاقي والإنساني الذي يرفض العنف والديكتاتورية والفساد، وينأى بالوطن عن مزيد من التشرذم والفتن الدموية، ويفضح من يريد بناء سلطته على الجماجم والقهر.

ـ والاعتبار الوطني الذي يقوم على المحافظة على سوريا وطنا يتسع لجميع بنيه، بدلا من توريط مكوناته المذهبية والدينية والعرقية واللغوية في حروب أهلية لا تنتهي، ظاهرها مقاوم للتطرف، لكن حقيقتها استنهاض التطرف بتطرف مضاد.

ـ والاعتبار المصلحي، وهذا اعتبار يأخذ في الحساب الواقع الجيو – سياسي للموحدين الدروز في سوريا. فهم أصلا موزعون جغرافيا في مناطق غير متلاصقة إلا في محافظة السويداء، لكن لا مصلحة لأبناء هذه المحافظة بمعاداة أهلهم وجيرانهم في سهل حوران. ولا مجال لتحويل منطقتهم الني تحدها الصحراء من الشرق والجنوب إلى كيان منفصل قابل للحياة.

لا مصلحة لا للدروز، ولا لغيرهم من الأقليات، بالانخراط في تحالف سيخدم في النهاية تيار التطرف السني، بل من واجب الأقليات طمأنة السنة في هذا الوقت العصيب إلى أن الأقليات السورية ضد أي مؤامرة إقليمية أو دولية عليهم.

ولا مصلحة لهم أن يكونوا دروعا بشرية لطغمة تريد توريطهم والاحتماء بهم لا حمايتهم.


( الشرق الأوسط)