"حريتي لا تشترى بالذهب"، هو مقطع لقصيدة حفظناها من كتاب القراءة في المرحلة الابتدائية، ويتحدث عن محاورة مفترضة بين طائر في قفص وصاحب هذا الطائر، الذي اقتنع في النهاية بأن الحرية أغلى من الذهب وليس لها ثمن.
والحال يختلف قليلاً في مدينة
أربيل، حيث إنه بإمكانك أن تشتري حرية صنف معين من
الطيور البرية مقابل مبلغ بسيط وتطلق سراحه لتمنحه سعادة العودة إلى أحضان الطبيعة، لتشعر أنت بالفرح أيضاً لمساهمتك في منح الحرية لهذا المخلوق.
والظاهرة ليست قديمة في المدينة وتعود لبضع سنوات خلت، حيث انتشرت هذه المهنة التي تتكون من حلقتين، تتمثل الأولى بالصيادين الذين يبيعون بضاعتهم إلى الحلقة الثانية وهم باعة المفرد والذين يضعون مئات الطيور في أقفاص كبيرة محمولة على عربات ويتنقلون بها في العديد من مناطق أربيل، لكنهم يفضلون منطقة القلعة وسط المدينة والشوارع المحيطه بها، حيث تشهد هذه الأماكن حركة كثيفة في أغلب ساعات اليوم ما يمنحهم زبائن كثيرين وأرباحا مالية أكبر.
ويبدو المشهد غريباً للوهله الأولى للذين لم يروه من قبل؛ فهذا البائع يدفع بعربته بطيئاً وسرعان ما يتجمع حوله الناس وتختلط أصواتهم بضوضاء الطيور، ويبدأ المشترون باستلام طيورهم وإطلاق سراحها، وأحيانا يقوم البائع بالمهمة نيابة عنهم حيث يقوم بإطلاق الطيور ويحسب سعرها بصوت مرتفع حتى يتأكد الزبون أنه أفرج عن عدد من الطيور مساو للمبلغ الذي دفعوه.
وبالعودة إلى مصدر الطيور وهم الصيادون، يؤكد أحد أقدم رواد سوق الحيوانات في أربيل وهو آزاد جمال، أن الطيور يتم جلبها أحياناً من كركوك أو يتم اصطيادها في أربيل، حيث يعمد الصياد إلى الخروج المبكر للصيد قبل طلوع الشمس لنشر شباكه الخيطية على أكبر مساحة ممكنة.
ويتابع جمال في حديثه لـ "عربي21": "الصياد يقوم بالتمويه من خلال توزيع بعض الأوراق والحشائش فوق الشباك، وأخيرا ينثر طعم الصيد، وهو في الغالب حبوب الحنطة التي تعد الوجبة المفضلة للطيور، وينسحب الصياد مع بزوغ خيوط الشمس الأولى لتبدأ موجات الطيور بالتجمع على الوليمة المجانية التي يدفع ثمنها حريته حين يكتشف الفخ".
ويبين جمال، أن الفخ الواحد يعود على الصياد في أحسن الأحوال بسبعين طيراً أو أكثر قليلاً. ومن خلال جمع حصيلة عدة فخاخ ينصبها الصياد يحصل في النهاية على كمية ممتازة تبلغ عدة مئات من الطيور التي يبيعها إلى البائع الرئيسي الذي يتعامل معه، والذي يقوم بدوره بإضافة هامش ربح معقول على سعر الطير الواحد قبل أن يصل إلى يد المستهلك الذي يكون في الغالب من محبي الحرية ويعشق منحها للآخرين، سواء أكانوا بشر أو طيورا.
بدوره، يؤكد أحد الباعة وهو هوراز صباح، أن تجارة إطلاق سراح الطيور تدر واردا لا بأس به إذا كنا نشتري بضاعتنا من الصيادين، وتكون الأرباح أكبر بالنسبة للباعة الذين يمارسون الصيد بأنفسهم ولا يعتمدون على الصيادين، مبينا أنه شخصيا لا خبرة له بالصيد، ويضطر لشراء بضاعته بكميات قليلة ويومية من الصيادين المختصين بطائر الزرزور.
وحول سبب اختيارهم لهذا النوع من الطيور، يوضح صباح لـ "عربي21"، أن طائر الزرزور هو الطائر البري الأكثر تواجدا في هذه المناطق، حيث يقوم في فصل الشتاء، وبالتحديد شهر كانون الأول، بالهجرة من موطنه الأصلي في روسيا وأستراليا وأوربا، ويكون إقليم كردستان أحد المحطات الرئيسة التي يقصدها في طريق الهجرة، ولهذا فهو يتواجد بكثرة ولا يحتاج إلى تقنيات وأدوات معقدة لصيده.
والزرزور هو طائر مغرِّد أسود له ريش بنفسجي مائل إلى الخضرة، وأشهر أنواعه الأوربي والأفريقي، ويوجد منه في الطبيعة أكثر من ثمانين نوعاً يتراوح حجمها ما بين حجم الطيور الصغيرة والمتوسطة، وله أقدام كبيرة وقوية ويمشي أكثر مما يقفز، ويمتلك منقارا قويا، ويكون أغلب طعامه من الحشرات ويرقاتها والعناكب والحبوب والفواكه.
ولا يمكنك أن تستثني مهنة
بيع الزرازير من قانون المضاربة الذي يحكم سوق البيع والشراء، فهذا البائع يعرض الطائر الواحد بسعر ألف دينار، وفي حمى حركة البيع يظهر بائع آخر يقف على مسافة بعيدة ويعرض بضاعته بخمسمائة دينار. ومن الطبيعي أن يجذب القدر الأكبر من الزبائن، وحين تتوجه له بالسؤال عن سبب البيع بهذا السعر المنخفض يتضح لك أنه الصياد والبائع في الوقت ذاته، ولديه خزين كبير من الطيور يحتاج إلى تصريفه.
وعن أكثر الفئات التي تشتري الطيور وتطلق سراحها يبين البائع إسماعيل حمة لـ "عربي21"، ان الشباب هم الشريحة الاكبر في شراء الطيور تليهم النساء، مضيفاً أن زبائنه هم دوماً من محبي الحرية والطبيعة، وهناك من يتردد عليه باستمرار ويشتري كميات كبيرة منها، وأحيانا يأخذها معه إلى المنزل حتى يشترك مع بقية أفراد عائلته في طقوس إطلاق سراحها ومنحها الحرية.
بدوره، يقول عمران لطيف الذي كان يهم بإطلاق سراح اثنين من الزرازير، إنه دأب على هذه العادة منذ فترة طويلة ويقوم بها كلما جاء من بيته في قضاء سوران إلى مركز مدينة أربيل، حيث يتواجد بائعو الزرازير، مبينا أن حبه للطبيعة وللطيور يدفعه للقيام بهذا العمل باستمرار.
ويشدد لطيف على أن هذه الطيور خلقها المولى من أجل أن تحيا بحرية وليس لتسجن خلف قضبان مصطنعه. والواجب الإنساني وحب الحرية والانعتاق من القيود تجعلني أساهم في إطلاق سراح هذه الكائنات، وأعتقد أن 500 أو 1000 دينار (يعادل أقل من دولار واحد)، هو مبلغ زهيد يدفع ثمناً لحرية لا تقدر بأي سعر بشري.
ومع أن أغلب مشتري ومعتقي طائر الزرزور هم من سكان أربيل والقادمين من المدن العراقية الأخرى، إلا أنك تلاحظ بين فترة وأخرى وقوف أفراد أو مجموعة من السياح الأجانب الذين يتابعون المشهد بنوع من الحيرة، سرعان ما تتبدد حين يقوم المترجم الذي يرافقهم بشرح ما يحصل، ونادراً ما يغادرون بدون إطلاق سراح بعض الطيور والتقاط مجموعة من الصور لمراسم منح الحرية.
ويبدي جون مارسيل وهو سائح أوربي إعجابه بالفكرة، ويخبرنا مترجمه بأنه لم يشاهد مثل هذه الحالة من قبل في عدد من الدول التي زارها. ويرى أن إطلاق سراح الطيور هو تعبير رمزي ومجازي لحبه وأمنيته في أن يمنح الحرية والانطلاق للآخرين .
ويرى مارسيل أن زبائن هذه التجارة هم أناس يحملون صفات نبيلة ورسالة إنسانية بداخلهم تدفعهم للقيام بهذا العمل الجميل، وأنه يريد توثيق هذا الموضوع وإخبار زملائه به حين يعود إلى بلاده، مضيفاً أنه شاهد العديد من القصص والمناظر والحلات الجميلة في هذه البقعه من الأرض والتي ينوي العودة إليها مجددا، ولكن برفقة مجموعة من الأصدقاء، ويبدو واثقاً من أن زملاءه سيحبون ويجربون عملية منح الحرية الجماعية لأسراب الزرازير المهاجرة