تتجه
ليبيا بخطى سريعة نحو السيناريو الأكثر سوء وكارثية. لقد قررت مختلف الفصائل المسلحة حسم خلافاتها بالقوة بعد أن نفذ صبر الجميع. لم يعد للحوار والتعايش أي صدى في نفوس أصحاب السلاح، وهو ما جعل قادتهم يعتقدون بأن ميزان القوى الفعلي و " الصحيح " لا تحدده الانتخابات وإنما منطق القوة.
لم تنج ليبيا من الاستقطاب الثنائي، وذلك بالرغم من أن جميع الفرقاء لم يختلفوا حول دور الإسلام، واتفقوا على أن تكون الشريعة الإسلامية مصدر التشريع.
مع ذلك يستمر الحديث اليوم عن مواجهة مفتوحة بين الإسلاميين والليبراليين. فعندما يتحدث أنصار اللواء
حفتر عن
الإرهاب فهم يقصدون بذلك كل التنظيمات المسلحة المدعومة من مختلف التيارات ذات التوجه الإسلامي. وفي المقابل يشترك اليوم في مقاتلة حفتر كل الجماعات والتيارات الإسلامية التي تجاوزت خلافاتها لتقف موحدة في وجه ما تعتبره مشروع إعادة النظام القديم، اعتقادهم بأنهم يواجهون تحالفا مع قوى النظام السابق يرمي الى إجهاض الثورة.
لكن سيكون من الخطأ اختزال الأزمة الليبية في بعد واحد، لأنها حالة شديدة التعقيد والتنوع. فالساحة المحلية تعج بالمليشيات المختلفة في مشاربها، حيث يجري الحديث عن وجود حوالي 800 مجموعة مسلحة رئيسية، فإذا أضفنا اليها المجموعات الصغيرة فإن العدد الجملي قد يصل الى 1700 مجموعة.
كما يمثل العامل القبلي بعدا آخر لا يمكن إهماله في بلد له تركيبته الاجتماعية الخاصة. وإذ تعمل التيارات الأيديولوجية والسياسية على توظيف هذا العامل لتحقيق بعض أهدافها ، الا أن ذلك مرتبط بمصالح القبيلة التي تبقى أكبر من الجماعة والتنظيم.
فشلت الانتخابات البرلمانية التي نظمت ولم تكن في صالح الإسلاميين في إيقاف التدهور الأمني، على العكس قد تكون هذه الانتخابات قد سرعت في وتيرة الاقتتال، ودفعت نحو المواجهة الشاملة و"الحاسمة" بين القوى الرئيسية.
لقد ولد البرلمان مشلولا، وهو إذ وجد ملجأ لعقد اجتماعه الأول في مدينة "طبرق" الواقعة بالشرق الليبي والتي لا تزال بعيدة عن الحرائق، إلا أن قدرته على التأثير في مجرى الأحداث تبقى معدومة. ولا يعود ذلك فقط الى الحجم المحدود من الليبيين الذين شاركوا في انتخاب هذا البرلمان، وانما أيضا لأن المبادرة الآن أصبحت بيد حاملي السلاح بعد أن فشل السياسيون في حماية المسار الانتقالي.
كذلك تداعت هذه الأحداث الخطيرة على وضع الحكومة التي وجدت نفسها بدون غطاء، وبدت عاجزة عن إدارة الشأن العام. لقد بدت هذه الحكومة المعزولة في
طرابلس في وضع غريب، فهي حكومة بلا جيش ولا شرطة ولا عصبية تحميها ولا جماعات قوية تؤازرها ولا قبائل تدافع عنها، ولهذا وجدت نفسها بدون صوت مسموع في الداخل أو في الخارج. باختصار هي حكومة بلا دولة تعبر عنها وتمثلها، لأن الدولة لا تزال في مرحلة المشروع غير المنجز.
إن المستبدين لا ينتهون بمجرد مغادرتهم السلطة أو بوفاتهم. إن أعمالهم السيئة تستمر بعد رحيلهم. ومن الكوارث التي أحدثها القذافي في حياته، وهي مستمرة بعد قتله حرصه الشديد على تدمير الدولة في ليبيا. وهي دولة حديثة النشأة، وهشة البنية، لكنها كانت قابلة للنمو والتطور، فجاء انقلاب الفاتح من سبتمبر لينسفها تدريجيا من خلال سلسلة قراراته العشوائية واللاعقلانية، إلى أن أفرغها من مقوماتها، فلم يعد لها جيش حقيقي ولا حكومة ولا برلمان ولا حكومة ولا إدارة ولا مجتمع مدني، ولا إعلام، ولا نقابات.
لقد تحولت ليبيا الى ذرات تدور حول نواة صغيرة ملتفة بدورها حول شخص القذافي وأسرته. كما أصر هذا الشخص غير السوي على منع أي محاولة لإصلاح النظام السياسي، حتى لو حصل ذلك بمبادرة من قبل ابنه سيف الإسلام، وهو ما أدى الى انهيار المنظومة برمتها.
الذين جاؤوا فيما بعد، ضيعوا فرصة الاسراع في وضع لبنات الدولة الجديدة. وكان واضحا للعيان أنه بدون بناء جيش وطني وموحد لا يمكن قيام دولة، ولن يولد هذا الجيش الا بحل المليشيات ومصادرة الأسلحة المنتشرة في البلاد بشكل حول ليبيا الى غابة للسلاح الفوضوي. لكن ذلك لم يحصل خلال الأيام والأسابيع الأولى من سقوط النظام، وهو ما جعل المجموعات المسلحة ترسخ أقدامها، وتفرخ في كل زاوية وكل مدينة، وتصبح البديل عن الدولة والبديل الفعلي عنها.
ومما زادها رسوخا وقوة و" شرعية" هو اعتماد الحكومات عليها، حيث تونم السياسيون بأن هذه الفصائل المسلحة يمكن ان تشكل نواة للجيش الجديد وللمؤسسات الأمنية.
لكن الأحداث المتتالية كشفت أن الآثار التي ترتبت عن ذلك ضيعت الفرصة أمام الليبيين في بناء دولة توحدهم، وتحميهم من الفوضى.
الأيام والأسابيع القادمة ستكون حاسمة لمستقبل ليبيا والمنطقة برمتها.