مرة أخرى يضرب الإرهاب بقوة في
تونس. واختار هدفه بدقة، حين قرر استهداف مقر إقامة وزير الداخلية لطفي
بن جدو. لم يكن بيته بالعاصمة حيث أصر على أن يبقي عائلته بمدينة القصرين مسقط رأسه التي تحول جبلها الشهير " الشعانبي" والجبال المحاذية له إلى قاعدة خلفية لحاملي السلاح من تونسيين ومن ذوي جنسيات أخرى لي لهم من غاية هذه الأيام إلا محاربة من يصفونهم ب" الطاغوت "، ويقصدون بذلك رجال الأمن.
حملت هذه العملية التي أسفرت عن مقتل أربعة من حراس المنزل مجموعة رسائل لجهات متعددة.
الرسالة الأولى موجهة للأجهزة الأمنية التي استعادت الثقة في نفسها بعد سلسلة من العمليات الاستباقية، ونجاحها في توجيه ضربات موجعة لهذه المجموعات كان آخرها اعتقال عناصر تسربت من ليبيا لتنفيذ خطة خطيرة جداً تستهدف تقويض الاقتصاد ونسف مسار العودة النسبية للاستقرار الأمني والسياسي في تونس. للرد على ذلك جاءت هذه العملية استعراضية ومضادة وانتقامية لتمثل تحديا قويا وصارخا للمؤولين في الدولة وللأجهزة والنظام السياسي برمته. فالذين طوقوا منزل وزير الداخلية، واشتبكوا مع الأمنيين لمدة تجاوزت النصف ساعة، أرادوا أن يقولوا قبل أن ينسحبوا بأنهم قادرون على استعادة المبادرة الميدانية من خلال الذهاب مباشرة الى رأس وزارة الداخلية.
الرسالة الثانية موجهة الى أنصار وأتباع هذه الجماعة الذين ارتبكوا خلال الأشهر الأخيرة بعد أن تم إيقاف ومحاكمة المئات منهم، وأصبحوا في أشد الحاجة لمؤشر يعيد لهم الثقة في أنفسهم، ويجعلهم أكثر استعدادا لهذه المعركة التي يعتقدون بأنها مقدسة. وهو ما عكسته المواقع الألكترونية الموالية للجماعات القريبة من تنظيم القاعدة داخل تونس وخارجها.
الرسالة الثالثة موجهة للتونسيين من أجل بث الخوف في صفوفهم، وإفقادهم الثقة في الأجهزة الأمنية وفي القيادات السياسية. هذه الجماعات تخوض حربا نفسية ضد المواطنين، مستغلة حالة القلق التي يعيشها هؤلاء بسبب اضطراب الأوضاع العامة بالبلاد منذ دخولها في انتقال سياسي صعب. ولهذا كلما مالت الكفة لصالح
الاستقرار، إلا وسارعت هذه المجموعات نحو إحداث صدمة جديدة تعيد البلاد الى درجة الصفر.
لاشك في أن العملية الأخيرة جاءت نوعية ونفذت بدقة وحرفية عالية، مما دل على أن هؤلاء يتمتعون بمؤهلات قتالية غير عادية. ومما زاد في تأثيرها النفسي والسياسي تزامنها مع ما يحدث في ليبيا، حيث تزداد المخاوف لدى التونسيين من التداعيات الخطيرة المحتملة عليهم في حال اندلعت الحرب الأهلية هناك واتسعت رقعتها، أو حصل تدخل أمريكي أو غربي.
لا توجد أرقام دقيقة عن عدد التونسيين المنضويين في صفوف المجموعات المسلحة الليبية، لكن من المؤكد أن زعيم " أنصار الشريعة " المكنى بأبو عياض قد لجأ منذ أكثر من سنة الى ليبيا مع عدد من مساعديه، حيث تربطه علاقات تحالف مع جماعة " أنصار الشريعة " الليبية، وتتحدث المصادر الأمنية التونسية عن احتمال قيام هؤلاء بهجمات على مواقع حساسة، خاصة وأن هناك خطوط إمداد تربط المقاتلين التونسيين بسوريا، والذين قد يدعون الى القيام بعمليات إرهابية في تونس، بعد أن توفرت لديهم فرصة التدرب على مختلف أشكال السلاح وفنون القتال.
هناك رغبة قوية لدى الجماعات المسلحة التي تصف نفسها ب " السلفية الجهادية " في أن تحول تونس إلى ممر حيوي بين ليبيا والجزائر بعد أن انهارت المنظومة الأمنية السابقة، وذلك على الصعيدين المحلي والإقليمي. وبما أن ليبيا تعيش حاليا وضعية الدولة الفاشلة، فإن هذه الجماعات تعمل على الاستفادة القصوى من هذه الوضعية الهشة والقابلة لكي تنفجر في كل لحظة. ولهذا فإن من مصلحة الشبكات المتشددة دينيا أن يحصل فوضى في تونس، وان يتعطل المسار السياسي الانتقالي، وان تفقد الطبقة السياسية مصداقيتها بالكامل أمام الرأي العام. وبصيغة أخرى ليس من مصلحة هذه المجموعات أن تخرج الدولة الوطنية التونسية من مأزقها الراهن، وأن تستعيد عافيتها، ولهذا فإن لغة العنف هي التي يراد لها أن تكون
الحكم في هذه المرحلة الحساسة. ومن هذا المنطلق فإن تونس مرشحة لتكون مسرحا لمثل هذه العمليات من أجل إسقاطها في السيناريو الليبي أو المصري.
هذا الأمر أدركته النخب التونسية، وما الحديث عن وجود توافق بين معظم التيارات والأحزاب، بما في ذلك حركة
النهضة وحزب نداء تونس على تنظيم الانتخابات قبل موفى السنة الجارية، وحتى يتحقق ذلك سيتم التوافق على اختيار صيغة موحدة في المسألة الخلافية المتعلقة بتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في يوم واحد أو يجب الفصل بينهما. وبقطع النظر عن اختلاف المصالح بين هذه الأحزاب حين تحديد موقف من هذه الصيغة أو تلك، فالمؤكد أن توحيد الجبهة الداخلية هو الرد الأفضل على من يقف وراء العمليات الإرهابية، أي بدل أن تستمر المعارك الكلامية بين الأحزاب وتبادل الاتهامات حول تحديد المسؤولية، في حين أن مصلحة البلاد تقتضي التوحد من أجل إبعاد شبح العنف.. وبعد ذلك لكل حدث حديث..