كتاب عربي 21

المجتمع الدولي لا يكترث بسوريا الجديدة

"الزيارات المتتابعة للمسؤولين الغربيين لا تخرج عن سياق فحص توجهات النظام الجديد ومحاولة تطويعه"- القيادة العامة على تيلغرام
لا يكترث المجتمع الدولي بسوريا الجديدة ولم يهتم بسوريا القديمة، فالمجتمع الدولي هو تسمية مضللة لنظام عالمي مهيمن بالقوة تقوده الولايات المتحدة يعمل لتحقيق مصالحه القومية، ويستخدم القيم الأخلاقية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات أداة للسيطرة والهيمنة. فانهيار وزوال نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا على بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، لم يشكل خبرا سارا للمجتمع الدولي، بل خلق مفاجأة مقلقة، فلم تكن القوى الدولية والإقليمية الفاعلة المناصرة أو المناهضة لنظام دمشق ترغب بسقوطه.

فالمقاربة الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط تتحدد بتحقيق أمن ونفوذ المستعمرة الإسرائيلية، وقد سمحت وتواطأت مع إيران وروسيا في سوريا، وتغاضت عن وحشية النظام وطائفيته، وحافظت على وجوده وديمومة حكمه. فقد اعتبرت واشنطن أن انتصار الثورة السورية يؤسس لبروز حكومة إسلامية سنيّة ويشجع على ظهور جماعات إرهابية، وهو ما يهدد الأمن الإسرائيلي، ويخل بأركان النظام الشرق الأوسطي الذي يجب أن تقوده إسرائيل.

رغم عدم اكتراث المجتمع الدولي بسوريا الجديدة، فإن مصلحته تتحقق بنشوء نظام سياسي ضعيف تابع يعيش حالة من الاستقرار الهش على شاكلة الأنظمة العربية بصرف النظر عن أيديولوجية من يحكم، لكن الغرب تاريخيا يتوافر على مخيال خصب معاد لتشكل هياكل حكم إسلامية، فالإسلامية تعني تشكل كينونة مناهضة للغربانية الإمبريالية والصهيونية الاستعمارية
رغم عدم اكتراث المجتمع الدولي بسوريا الجديدة، فإن مصلحته تتحقق بنشوء نظام سياسي ضعيف تابع يعيش حالة من الاستقرار الهش على شاكلة الأنظمة العربية بصرف النظر عن أيديولوجية من يحكم، لكن الغرب تاريخيا يتوافر على مخيال خصب معاد لتشكل هياكل حكم إسلامية، فالإسلامية تعني تشكل كينونة مناهضة للغربانية الإمبريالية والصهيونية الاستعمارية. فالمطالب الغربية من سادة سوريا من الإسلاميين الجدد، تسعى إلى تطويع الحكم الجديد للسير على خطى الأنظمة العربية التي ترتكز في سياساتها على ضرورة مكافحة الإرهاب الإسلامي وضمان أمن الاستعمار الإسرائيلي الصهيوني، فالزيارات المتتابعة للمسؤولين الغربيين لا تخرج عن سياق فحص توجهات النظام الجديد ومحاولة تطويعه.

فالمجتمع الدولي لا يستطيع أن يتحمل رؤية سوريا تتفكك دون وجود آليات تتحكم بمسار التفتيت، فالحديث عن مسار سياسي انتقالي سلمي وشامل وضمان حقوق الأقليات والنساء هو أحد أدوات التحكم المنتجة للتفكيك المحسوب، فلا يتحدث الغرب عن تقديم مساعدات اقتصادية أو إعادة إعمار، بل عن المساعدة في تشكل النظام السياسي والقانوني للدولة الجديدة، وهو ما فعلته الأنظمة العربية التي تتبع الغرب.

كان الغرب بقيادة واشنطن ومعه الأنظمة العربية شريكا لحكومة الأسد في سحق الحركة الاحتجاجية الشعبية في سوريا منذ انطلاقها عام 2011، وشكلت سوريا مختبرا للعنف والوحشية لوأد ثورات الربيع العربي من خلال حروب العبرة، وعندما أوشكت فصائل الثورة السورية المسلحة على الإطاحة بحكومة الأسد سمح الغرب بتدخلات إيران وروسيا العسكرية المتوحشة في سوريا، وبقيت تركيا تحاول حماية أمنها القومي بالاحتفاظ بجيوب تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا، بينما قامت الولايات المتحدة بالسيطرة على شمال شرق سوريا من خلال تأسيس قوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد، وبهذا سيطرت الولايات المتحدة على الموارد الزراعية والثروة الحيوانية ومواد الطاقة والغاز، ورغم نهاية نظام الأسد تحتفظ واشنطن بهذه المناطق الحيوية، ولا تتحدث عن آليات إنهاء احتلالها وتسليمها لسوريا الجديدة.

لم تكن عملية تحرير سوريا سوى نتاج لاختلالات جيوسياسية نشأت عقب عملية "طوفان الأقصى" في غزة، فالولايات المتحدة انشغلت بدعم وإسناد المستعمرة الصهيونية، وتورطت إيران وروسيا في صراعات أخرى. وقد اغتنمت هيئة تحرير الشام المتمركزة في محافظة إدلب وفصائل معارضة أخرى في شمال غرب سوريا الفرصة بشن هجوم في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر على مدينة حلب، وتمكنت من اختراق دفاعات الجيش السوري واستولت على المدينة، وهو ما أدى إلى سلسلة من الفشل المتتالي وقاد إلى انهيار الجيش السوري على مستوى البلاد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، ومع اقتراب فصائل المعارضة من دمشق من الشمال والجنوب، فر الأسد إلى روسيا وانهارت حكومته خلال أحد عشر يوما فقط.

إن الحديث عن تلقي المعارضة المسلحة الدعم من الغرب وتركيا لإسقاط النظام، هو دعاية خرافية لا تصمد أمام الحقائق، فقد فوجئ الغرب بسيطرة بانهيار حكومة الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام، وقد استسلمت الدول الغربية والعربية لحقيقة أن هيئة تحرير الشام ستحكم سوريا، وهي مصنفة عند الجميع منظمة إرهابية، باعتبارها النسخة الأحدث لجبهة النصرة، التي كانت في الأصل الطليعة السورية لتنظيم الدولة في العراق ثم فرع القاعدة في سوريا، رغم أنها قطعت علاقاتها علنا مع القاعدة والجهادية العالمية العابرة للحدود الوطنية في عام 2016، ومنذ فك ارتباطها بالقاعدة عملت هيئة تحرير الشام دون جدوى على إعادة تأهيل صورتها وتأمين إزالتها من قوائم الإرهاب الدولية.

تعامل المجتمع الدولي مع سوريا الجديدة ينطوي على نزعة براغماتية واقعية فجة، فسجل هيئة تحرير الشام إبان حكم إدلب بالنسبة للغرب لا يتمتع بالقبول ولا يبشر بالخير لبناء حكومة وطنية تستوعب التنوع الديني والعرقي والسياسي في سوريا، وسوف تبقى تحت العقوبات والمساومة والضغوطات. فالولايات المتحدة ومعها الغرب لن تتخلى عن حلفائها الأكراد، فالسيناريو المفضل للمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة هو وجود كيان متفتت ومنقسم، ينطوي على كيانات هشة ضعيفة تقوم على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية آمنة في المنطقة، فمن خلال الدعوة إلى ضمان حقوق الأقليات تؤسس لقيام عدة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب والشمال الغربي.
الخطر الأكثر إلحاحا على سوريا بالنسبة للمجتمع الدولي هو تجنب الفوضى وبروز جماعات الجهادية العالمية المناهضة للغرب والأنظمة العربية والمستعمرة الصهيونية، وهي الأسباب التي تراهن عليها قيادة هيئة تحرير الشام لضمان تلقي الدعم من المجتمع الدولي، حيث يتعين على جميع الأطراف أن تضمن عدم تحقق أشد التوقعات قتامة عقب سقوط الأسد. ولذلك فالمجتمع الدولي سوف يقبل على مضض حكم هيئة تحرير الشام، ولكنه سوف يعمل دون كلل على إخضاعها، واقتناص الفرص لإسقاطها مع توفر بدائل سلطوية خانعة على شاكلة الأنظمة العربية

إن ما يجعل المجتمع الدولي يتخلى عن سيناريو التقسيم المفضل لديه، هو الخشية من وقوع سوريا في سيناريو الفوضى، وهو ما يسمح بالتعامل مع هيئة تحرير الشام لخلق حالة من النظام والاستقرار النسبي، فما حققته الهيئة في إدلب قد لا تتمكن من تحقيقه في جميع أنحاء سوريا، وحتى سيطرة الهيئة على مكان محدود لم تكن عملية ممهدة وسهلة، فقد انطوت على استخدام العنف لإخضاع فصائل المعارضة المنافسة والتخلص من المنشقين عنها، وهي لا تملك القوة الكافية، إذ لا يتجاوز عدد مقاتليها وكوادرها عن 30 ألف شخص، ولذلك فإن تأسيس جيش وطني من كافة الفصائل هي مهمة شاقة وتتطلب تعاون كافة الفصائل، وهو مطلب صعب التحقق بوجود فصائل مسلحة معارضة للهيئة، وتتوافر على أيديولوجيات مختلفة وولاءات متعددة. فقوات سوريا الديمقراطية تشكل وحدها جيشا قوامه أكثر من 60 ألف مقاتل، وقوات الجبهة الجنوبية لها توجهات مغايرة، فضلا عن الفصائل التي تقوم على أسس إثنية، أو بقايا جيش ومليشيات النظام السابق، وسوف يبقى مقاتلي تنظيم الدولة في حالة استنفار لاقتناص الفرص، وسوف يسعى تنظيم القاعدة إلى إعادة بناء صفوفه. فهيئة تحرير الشام لا تشكل مجموع المعارضة المسلحة في سوريا، وحتى في مناطق سيطرتها المحدودة في إدلب كانت ثمة فصائل معارضة مسلحة.

خلاصة القول أن المجتمع الدولي لا يكترث بسوريا الجديدة، وسوف تبقى سوريا رهينة للتصورات الأمريكية التي تحددها المستعمرة الصهيونية، وأن هيئة تحرير الشام ستبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، فمعيار المجتمع الدولي بقيادة واشنطن هو خضوع سوريا للمصالح الغربية وتأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وسوف تتعاظم أسباب الشك في صدق التحول المعتدل لهيئة تحرير الشام. لكن الخطر الأكثر إلحاحا على سوريا بالنسبة للمجتمع الدولي هو تجنب الفوضى وبروز جماعات الجهادية العالمية المناهضة للغرب والأنظمة العربية والمستعمرة الصهيونية، وهي الأسباب التي تراهن عليها قيادة هيئة تحرير الشام لضمان تلقي الدعم من المجتمع الدولي، حيث يتعين على جميع الأطراف أن تضمن عدم تحقق أشد التوقعات قتامة عقب سقوط الأسد. ولذلك فالمجتمع الدولي سوف يقبل على مضض حكم هيئة تحرير الشام، ولكنه سوف يعمل دون كلل على إخضاعها، واقتناص الفرص لإسقاطها مع توفر بدائل سلطوية خانعة على شاكلة الأنظمة العربية.

x.com/hasanabuhanya