في أعقاب الحرب
العدوانية التي عصفت بجنوب
لبنان، ومع إعلان وقف إطلاق النار، تظل ظاهرة
تدمير
إسرائيل للمنازل واحدة من أبرز نتائج هذه الحرب، مما يثير تساؤلات عديدة حول أسباب
هذا التدمير وأهدافه. هل كان التدمير جزءا من استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تهدف
إلى تغيير الواقع الديموغرافي والسياسي في المنطقة، أم أنه نتيجة حتمية للاشتباكات
العسكرية؟ وكيف سيتعامل المجتمع الدولي مع هذه الممارسات بعد توقف الحرب؟ وهل
ستتمكن الأسر النازحة من العودة إلى منازلها المدمرة في ظل الجهود الدولية لإعادة
الإعمار وضمان حقوق السكان المتضررين؟
هذا المقال يسلط
الضوء على هذه القضية من زوايا متعددة، مستعرضا معطيات وأرقاما ميدانية تعكس حجم
الكارثة الإنسانية، ويحلل خلفيات هذا التدمير وأهدافه. كما يناقش رؤى الأطراف
المختلفة حول إعادة الإعمار، بين التصور اللبناني الذي يهدف إلى تعزيز صمود
السكان، والتصور الإسرائيلي الذي يسعى إلى فرض شروط تعيد تشكيل المنطقة الحدودية
وفق مصالحه.
أرقام ومعطيات:
تشير التقارير
الميدانية الحديثة إلى أن الحرب الأخيرة في جنوب لبنان خلفت دمارا هائلا في
المنازل والبنية التحتية، حيث بلغ عدد المنازل المدمرة كليا حوالي 45,000 منزل،
وتضرر 30,000 منزل بشكل جزئي، بالإضافة إلى تضرر أكثر من 125,000 منزل بأضرار
طفيفة. تضم المنطقة الجنوبية حوالي 129 قرية، منها 82 قرية جنوب نهر الليطاني و26
قرية بين نهري الليطاني والأولي، وهي مناطق تعرضت بشكل متكرر للاستهداف، مما أدى
إلى نزوح أكثر من 886,000 شخص داخليا وفرار 540,000 شخص إلى سوريا.
تدمير المنازل في جنوب لبنان يحمل سمات منهجية واضحة تتجاوز كونه نتيجة عرضية لاشتباكات مسلحة. يتم ذلك من خلال اختيار الأهداف بعناية، حيث تُستهدف منازل تقع في مناطق استراتيجية، ما يشير إلى خطة مدروسة تهدف إلى تفريغ المناطق الحدودية من سكانها وإضعاف البنية المجتمعية والديموغرافية. كما يتسم التدمير باستخدام قوة عسكرية مفرطة، وهو ما يتجاوز الضرورات العسكرية التكتيكية، ما يعكس نية متعمدة للإبادة المادية
أما البنية
التحتية، فقد تضررت 35 منشأة مياه، مما أثر على إمدادات المياه لأكثر من 400,000
شخص، وتعرضت 80 مدرسة للتدمير، مما حرم حوالي 25,000 طفل من التعليم. وعلى الصعيد
الاقتصادي، قُدرت الخسائر الإجمالية بحوالي 10.5 مليار دولار، منها 3.2 مليار
دولار تخص قطاع السكن، مع توقع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.7 في المئة
لعام 2024.
وتشير التقديرات
إلى أن النساء والأطفال يمثلون 40 في المئة من إجمالي النازحين، في حين ارتفعت
معدلات الفقر في المناطق المتضررة إلى 48 في المئة، والبطالة إلى 36 في المئة.
تعكس هذه الأرقام مدى الكارثة الإنسانية والاجتماعية التي يعيشها لبنان، مما يؤكد
الحاجة إلى تدخل عاجل لإعادة الإعمار ودعم السكان المتضررين. ومن المفيد ذكره أن
هذه الأرقام والإحصاءات تم جمعها من تقارير الأمم المتحدة، ووكالات الإغاثة
الدولية، والمؤسسات الإعلامية الموثوقة، والبيانات اللبنانية الرسمية.
أشكال تدمير
المنازل في الحرب الحالية على جنوب لبنان:
تشير الشهادات
والتقارير الميدانية الحديثة إلى أن تدمير المنازل في جنوب لبنان خلال الحرب كان يتم عبر أساليب متعددة وممنهجة؛ تعكس
استراتيجية واضحة تهدف إلى إخلاء المنطقة الحدودية من سكانها. القصف الجوي
والمدفعي المباشر هو أبرز أشكال التدمير، حيث تستهدف القوات الإسرائيلية المنازل
بشكل دقيق، مما يؤدي إلى تسويتها بالأرض، كما حدث في بلدة رامية. إلى جانب ذلك،
تُستخدم أساليب التفجير الممنهج عبر تفخيخ المنازل وتفجيرها، خاصة في القرى
الحدودية مثل العديسة وميس الجبل وكفركلا، بغية خلق مناطق عازلة خالية من السكان. كما
توظف القوات الإسرائيلية الجرافات العسكرية لتجريف المنازل وتسويتها بالأرض، في
أسلوب يهدف إلى محو أي بنية تحتية قد تُستخدم مستقبلا.
حق العودة إلى
المنازل: رؤية قانونية
وفقا للقانون
الدولي الإنساني، تُصنَّف المنازل ضمن الممتلكات المدنية التي تحظى بحماية كاملة
خلال النزاعات المسلحة. تنص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على حماية الأشخاص
المدنيين في وقت الحرب، وتحظر استهداف الممتلكات المدنية إلا إذا استُخدمت لأغراض
عسكرية. كما يُعزِّز البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 هذه الحماية، مؤكدا على
ضرورة التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية وتجنب استهداف المدنيين وممتلكاتهم.
بالإضافة إلى
ذلك، يضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان حق الأفراد في العودة إلى منازلهم بعد
انتهاء الأعمال العدائية. تنص المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن
"لكل فرد الحق في حرية التنقل وفي اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة"،
و"لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده".
كما تؤكد المادة
12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حق الأفراد في حرية
التنقل واختيار محل إقامتهم، والحق في مغادرة أي بلد والعودة إليه.
بناء على هذه
النصوص القانونية، فإن تدمير المنازل بشكل متعمد أو منع سكانها من العودة إليها
يُعد انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. يُلزم
المجتمع الدولي باتخاذ التدابير اللازمة لضمان احترام هذه القوانين، ومحاسبة
الجهات المسؤولة عن أي انتهاكات، وتقديم الدعم اللازم للمتضررين لضمان عودتهم
الآمنة إلى منازلهم.
هل التدمير منهجي
أم نتيجة اشتباك مسلح؟
تشير التقارير
والشهادات الميدانية إلى أن تدمير المنازل في جنوب لبنان يحمل سمات منهجية واضحة
تتجاوز كونه نتيجة عرضية لاشتباكات مسلحة. يتم ذلك من خلال اختيار الأهداف بعناية،
حيث تُستهدف منازل تقع في مناطق استراتيجية، ما يشير إلى خطة مدروسة تهدف إلى
تفريغ المناطق الحدودية من سكانها وإضعاف البنية المجتمعية والديموغرافية. كما
يتسم التدمير باستخدام قوة عسكرية مفرطة، وهو ما يتجاوز الضرورات العسكرية
التكتيكية، ما يعكس نية متعمدة للإبادة المادية وزعزعة استقرار المنطقة على المدى
الطويل.
إضافة إلى ذلك،
يشمل اتساع نطاق التدمير مناطق متعددة، مما يعزز فرضية السياسة الممنهجة بدلا من
الردود العشوائية. هذا التدمير لا يستهدف فقط المواقع ذات الأهمية العسكرية بل
يمتد ليشمل ممتلكات المدنيين والبنى التحتية الأساسية، ما يزيد من الضغط النفسي
على السكان المحليين ويدفعهم إلى
التهجير القسري، في انتهاك صارخ للقانون الدولي
الإنساني.
كل هذه المعطيات
تُظهر نمطا متعمدا للتدمير يهدف إلى تحقيق أهداف عسكرية وسياسية واسعة النطاق، مثل
زعزعة الاستقرار الديموغرافي، وتعطيل البيئة الحاضنة للمقاومة، وتكريس سياسات
الإخضاع الجماعي في المناطق الحدودية. هذا النهج يثبت أن التدمير ليس نتيجة عرضية
لاشتباكات، بل استراتيجية منظمة تخدم رؤية طويلة الأمد لتغيير الواقع الجيوسياسي
والاجتماعي في جنوب لبنان.
تشكل قضية عودة النازحين وإعادة إعمار المنازل المدمرة في جنوب لبنان اختبارا حقيقيا للتصورات المتناقضة
عودة النازحين
وإعادة الإعمار: بين التصور اللبناني والإسرائيلي
تشكل قضية عودة
النازحين وإعادة إعمار المنازل المدمرة في جنوب لبنان اختبارا حقيقيا للتصورات
المتناقضة. تاريخيا، كشفت الوقائع في مناطق أخرى مثل مخيم جنين في عام 2002 عن
استراتيجيات إسرائيلية تسعى لإعادة الإعمار وفق شروط أمنية صارمة، حيث سمحت بإعادة
بناء المخيم تحت قيود مشددة، بهدف التحكم في الحركة السكانية وضمان خلو المناطق من
أي بنية تحتية قد تُستخدم في أنشطة مقاومة. في جنوب لبنان، قد يتكرر المشهد، حيث
تظهر رؤيتان متناقضتان لإعادة الإعمار:
1- التصور اللبناني:
تسعى الحكومة
اللبنانية، بدعم من منظمات محلية ودولية، إلى إعادة بناء المنازل والبنية التحتية
كما كانت قبل الحرب، بهدف تعزيز صمود السكان وتأمين عودتهم إلى أراضيهم. وقد تمثل
ذلك في أعقاب حرب 2006، عندما أطلقت الحكومة اللبنانية بدعم من المجتمع الدولي
مشاريع واسعة لإعادة الإعمار، كما أطلق حزب الله مشروع "وعد"، الذي أعاد
بناء آلاف المنازل في الضاحية الجنوبية وكثير من المناطق المتضررة.
2- التصور الإسرائيلي:
تميل إسرائيل إلى
فرض شروط على إعادة الإعمار لضمان خلو المناطق الحدودية من أي نشاط مقاوم. تشير
التقارير إلى أن إسرائيل تسعى إلى منع عودة السكان إلى المناطق الحدودية عبر تدمير
شامل للبنية التحتية، كما فعلت في بلدة بنت جبيل بعد حرب 2006، حيث تعمدت تدمير
المباني السكنية والمرافق الحيوية بشكل ممنهج. في بعض الحالات، تترك إسرائيل
المناطق مدمرة تماما، مراهنة على أن ذلك سيؤدي إلى نزوح دائم للسكان، ما يخلق
"مناطق عازلة" تخدم أهدافها الأمنية. على الرغم من الأضرار الجسيمة التي
خلفها التدمير، يُظهر التاريخ أن هذه الاستراتيجية لا تحقق نجاحا مستداما. يعود
السكان إلى منازلهم رغم الدمار، ويعملون على إعادة بنائها كجزء من مقاومتهم
للسياسات الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي تدمير المنازل إلى زيادة التعاطف
الدولي مع الضحايا، مما يضع إسرائيل تحت ضغوط سياسية وقانونية.
إعادة الإعمار في جنوب لبنان ليست مجرد عملية تقنية لإعادة بناء المنازل والبنية التحتية، بل هي جزء من صراع أعمق على الهوية والسيادة. يسعى لبنان من خلال إعادة البناء إلى تعزيز صمود سكانه وربطهم بأرضهم، في حين تستخدم إسرائيل التدمير كوسيلة لترسيخ سيطرتها وفرض واقع ديموغرافي يخدم مصالحها الاستراتيجية
تشير التقارير
إلى أن إسرائيل ترفض بشكل قاطع السماح بعودة النازحين إلا في ظل ترتيبات أمنية
صارمة، وهو ما يُظهر توجهها نحو خلق واقع ديموغرافي جديد. ويعكس ذلك استراتيجيتها
في مناطق أخرى مثل قطاع غزة، حيث استخدمت تدمير المنازل كوسيلة لإجبار السكان على
النزوح، مع فرض قيود على دخول مواد البناء والمساعدات الدولية.
إن إعادة الإعمار
في جنوب لبنان ليست مجرد عملية تقنية لإعادة بناء المنازل والبنية التحتية، بل هي
جزء من صراع أعمق على الهوية والسيادة. يسعى لبنان من خلال إعادة البناء إلى تعزيز
صمود سكانه وربطهم بأرضهم، في حين تستخدم إسرائيل التدمير كوسيلة لترسيخ سيطرتها
وفرض واقع ديموغرافي يخدم مصالحها الاستراتيجية. ورغم أن القانون الدولي الإنساني
يضمن للسكان المدنيين حق العودة إلى منازلهم، إلا أن التطبيق العملي لهذا الحق يظل
مرهونا بالتوازن بين إرادة المجتمع اللبناني والدعم الدولي من جهة، والسياسات
الإسرائيلية الممنهجة التي تسعى لتحقيق أهدافها الأمنية والسياسية طويلة الأمد من
جهة أخرى. هل تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها؟
إن تدمير المنازل
في جنوب لبنان، بما في ذلك النمط الممنهج الذي يستهدف البنية التحتية والممتلكات
المدنية بشكل متعمد، يتطلب استجابة عاجلة تتجاوز الوصف والتحليل إلى خطوات عملية
ملموسة. تتحمل الدول الكبرى والمنظمات الدولية مسؤولية أخلاقية وقانونية تجاه دعم
المدنيين المتضررين ومساءلة إسرائيل على انتهاكها للقانون الدولي الإنساني عن هذه
الجرائم الممنهجة. إن الصمت الدولي أمام هذه الكارثة لا يساهم إلا في تعميق معاناة
السكان، وترسيخ آثار التدمير المنهجي، وفتح المجال أمام المزيد من الجرائم
الإسرائيلية. وهي جرائم لن تبقى آثارها محصورة في جنوب لبنان أو قطاع غزة كما كان
متوقعا أن تبقى فقط في قطاع غزة!