في اثني عشر يوماً فقط تمكنت «إدارة العمليات العسكرية» من تحرير حلب وحماه وحمص ودمشق، إضافة إلى الريف الشرقي لمحافظة إدلب، وبدعم من الفصائل العسكرية في درعا والسويداء، من قوات النظام التي انهارت تماماً بسرعة قياسية أدت إلى فرار رأس النظام تحت جنح الظلام إلى خارج
سوريا. فكان يوم الأحد في الثامن من كانون الأول يوم ميلاد جديد لبلد تحول إلى ركام على يد النظام المتوحش وحليفيه الروسي والإيراني.
قاد هذه الحملة الشجاعة تحالف فصائل عسكرية مناهضة لنظام الأسد بقيادة هيئة تحرير الشام المصنفة في قائمة الأمم المتحدة للمنظمات الإرهابية وعلى لوائح دول عديدة. تتوجس قطاعات كبيرة من السوريين من هذه المنظمة السلفية الجهادية، ليس فقط بسبب أيديولوجيتها المتشددة بل كذلك بسبب ممارستها السلطة الفعلية طوال السنوات السابقة في منطقة سيطرتها في محافظة إدلب وما حولها من أرياف في إطار «منطقة خفض التصعيد الرابعة» التي ضمنها الاتفاق الروسي التركي، وشكلت منطقة تجميع لمن تم تهجيرهم من مناطق خفض التصعيد الأخرى في الجنوب وحمص وغوطة دمشق الشرقية، فاكتظت بملايين السوريين من سكان محليين ونازحين، حكمتهم هيئة تحرير الشام بسلطة دكتاتورية قائمة على فهم متشدد للإسلام.
غير أن الخطاب المعتدل لزعيم «الهيئة» أحمد الشرع المعروف باسم أبو محمد
الجولاني، منذ سيطرة قواته على مدينة حلب بلا قتال، وسلوك هذه القوات المنضبط في العلاقة مع السكان والمؤسسات العامة والممتلكات الخاصة، بدد بعض الهواجس، ليكتمل بعضها الآخر بعد دخول تلك القوات إلى مدن ذات غالبية سكانية من غير المسلمين السنة، كسلمية ومحردة، فارتفع منسوب التفاؤل لدى الغالبية العظمى من السوريين في جميع المناطق وفي المهاجر القريبة والبعيدة. احتفالات السوريين في مختلف مناطق تواجدهم بسقوط النظام في صباح يوم الأحد عكست روحاً وطنية افتقدناها منذ سنوات طويلة بعدما تمكن النظام من الصمود بفضل الدعم الروسي والإيراني ونسيان المجتمع الدولي للمأساة الرهيبة التي يعيشها السوريون.
لقد استحق السوريون هذا الفرح العظيم بعد سنوات من الخراب والدم والدموع واليأس الذي غلب على النفوس، فغضوا النظر مؤقتاً عن مخاوفهم المحقة بشأن القوة التي قادت عملية إسقاط النظام وتحرير مناطق سيطرته. والآن باتوا يرون بالعين المجردة جسامة المهمات الملقاة على كاهلهم للنهوض ببلدهم من جديد وتجنب الألغام الكثيرة التي خلّفها النظام والتدخلات الإقليمية والدولية في المجتمع، وسيتطلب الأمر جهود جميع السوريين لتجاوز المرحلة الانتقالية الخطرة بأقل الخسائر الممكنة. أبرز تلك الألغام تتمثل في الشروخ العميقة في المجتمع والمشاعر الانتقامية التي سببتها غزارة الدم المراق والمظالم التي بلغت مستويات مخيفة. وثاني تلك الألغام هي المصالح المتباينة للدول المتدخلة، وقد رأينا كيف استغلت إسرائيل حالة الوهن وفراغ السلطة فقامت بتدمير كل ما تملكه سوريا من إمكانات عسكرية في عدد قياسي من الغارات الجوية في يوم واحد، وقامت بتوسيع منطقة احتلالها السابقة للأراضي السورية، إضافة إلى تسريح الجبان للجيش قبيل لحظة هروبه، فباتت سوريا ما بعد الأسد اليوم دولة بلا سلاح.
قد ينظر بعض السوريين إلى ذلك بلا اكتراث أو حتى باستحسان، بالنظر إلى أن النظام المخلوع لم يستخدم كل تلك الأسلحة إلا في قتل السوريين وتدمير عمرانهم والتغول عليهم، بما في ذلك السلاح الكيمياوي الذي دفع ثمنه من جيوبهم ليستخدم في قتلهم. لكن دولة بلا سلاح على حدود دولة متوحشة كإسرائيل وأخرى ذات أطماع توسعية كتركيا، هي ككائن حي بلا أسنان لا تملك إلا الرضوخ للإملاءات الخارجية أو الاحتماء بدول أخرى وما يعنيه ذلك من تبعية. لا يتوقعنّ أحد أن تسمح الدول العظمى لسوريا المنهكة بشراء سلاح جديد يصون استقلالها حتى بعد تعافيها من جراحها بعد سنوات طويلة.
لدينا، من جهة أخرى، ازدواجية في السلطة في المناطق الخاضعة لكل من «إدارة العمليات العسكرية» و«قوات سوريا الديمقراطية» إضافة للمناطق الخاضعة للسيطرة التركية. من هذا المنظور ستلعب كل من تركيا والولايات المتحدة دوراً كبيراً في مستقبل سوريا على المدى القريب والمتوسط، إضافة إلى روسيا التي تحتفظ بقواعد عسكرية في اللاذقية وطرطوس، مع العلم أن الولايات المتحدة وروسيا عضوان دائمان في مجلس الأمن يملكان القدرة على التعطيل في قرارات مصيرية بشأن مستقبل سوريا.
من الأهمية بمكان أن تسعى كل من هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية إلى صياغة تفاهمات تخرج الصراع المحتمل بينهما من احتمالات التحقق. وباعتبار «الهيئة» هي الجهة المسيطرة على العاصمة دمشق والمبادرة إلى تشكيل حكومة انتقالية، فمطلوب منها بإلحاح عدم الاستفراد بالسلطة الانتقالية، فمن شأن ذلك أن يصنع لغماً جديداً بدلاً من العمل على إزالة الألغام الموجودة من مخلفات النظام المخلوع. ولا يدعو تعيين أبو محمد الجولاني لرئيس «حكومة الإنقاذ» محمد بشير رئيساً للحكومة الانتقالية التي سيقوم بتشكيلها إلى التفاؤل.
فإدارة منطقة صغيرة كإدلب لا يمكن نسخها لإدارة بلد كامل بمجتمع متنوع فيه تيارات سياسية كثيرة، هذا حتى من غير التذكير بتجربة حكومة الإنقاذ في إدلب التي لم تقدم نموذجاً يستحق التكرار، من حيث تبعيتها لصاحب السلاح وحالة الحريات السياسية والمدنية. كانت لافتة للنظر تلك الصورة جمعت الجولاني ورئيس الحكومة السورية السابقة محمد الجلالي ورئيس الحكومة المكلف محمد البشير. كان حاضراً مع الثلاثة شخص رابع لم يعلن عن سبب وجوده في الاجتماع ولا عن اسمه.
وكان الجولاني يواجه الجلالي ويتحدث إليه، معطياً ظهره للبشير، وبين المتحدثين ذلك الشخص الرابع الصامت. ترى هل كان هذا النسق مقصوداً أم بسبب غفلة غير محمودة؟ هل أريد لنا أن نتلقى الانطباع بأن نقل السلطة قد تم من ممثل للنظام السابق إلى الجولاني، مع تهميش مقصود لرئيس الحكومة المؤقتة وإبراز الشخص الرابع المجهول؟
كل هذه الصعوبات لا يمكنها أن تبدد الإنجاز الكبير الذي تحقق ألا وهو إسقاط نظام متوحش أكل من أعمار أجيال من السوريين وترك البلاد حطاماً.
الثورات لا ترسم وفق كتالوغات مسبقة الصنع، بل تتبع مساراتها الخاصة، فلا تشبه تجربة ثورية غيرها. الثورة السورية التي بدأت في ربيع العام 2011، دخلت دهاليز مظلمة، لتستأنف بحملة «ردع العدوان» التي نجحت في إسقاط النظام وإطلاق سراح آلاف المعتقلين من سجون الأسد الفظيعة، وما زال طريق الحرية أمامنا طويلاً وشاقاً. لقد شاءت الأقدار أن يكون هذا هو الطريق السوري إلى الحرية.
القدس العربي