منذ صدور مذكرتي الاعتقال من قبل الجنائية الدولية، ضد كل من رئيس وزراء
الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه السابق، يوآف غالانت، أبدت عدد من الدول استعدادها لتنفيذ هذا القرار، واعتقالهما في حال وصلا أراضيها.
إلا أن هناك دولا اتّسم موقفها تجاه مذكرتي الاعتقال بالغموض، ومنها
فرنسا، وذلك لتضارب تصريحات مسؤوليها؛ حيث قال المتحدث باسم خارجيتها، كريستوف لوموان، إن: "بلاده أخذت علما بقرار المحكمة وهو ليس حكما، بل هو صبغ الاتهام بالطابع الرسمي".
وأكّد لوموان "التزام فرنسا باستقلالية الجنائية الدولية وفقا لنظام روما الأساسي، وذلك تماشياً مع التزامها الطويل الأمد بدعم
العدالة الدولية"، إلا أنه لم يشر إلى أن فرنسا سوف تعتقل نتنياهو أم لا في حال وصل باريس.
وأصدرت الخارجية الفرنسية، لاحقا، بيانا آخر قالت فيه، إنه "رغم أن فرنسا ستفي بالتزاماتها الدولية، بما في ذلك التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه لا يمكن أن يُطلب منها بموجب هذا التعاون أن تتصرف بطريقة غير متوافقة مع التزاماتها بموجب
القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدول غير الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية".
ووفقا للبيان ذاته، فإن: "مثل هذه الحصانات تنطبق على رئيس الوزراء نتنياهو والوزراء المعنيين الآخرين وسيتم أخذها في الاعتبار"، الأمر الذي زاد من غموض موقف فرنسا، حيث لم تشر البيانات إلى نيّة فرنسا في اعتقالهما أم لا.
موقف سياسي
وأثار حديث الخارجية الفرنسية بخصوص حصانات الدول غير الأعضاء بالجنائية الدولية، بعد أن أكدت التزامها بقرارات الجنائية الدولية، جُملة من التساؤلات عن سبب هذا التغيير في الموقف.
المحلل الفرنسي، جوليان روبن، يعتقد أن: "هذا التحول في الموقف بشأن مذكرة التوقيف يرتبط ارتباطاً مباشراً بوقف إطلاق النار في لبنان".
وتابع روبن، في حديث خاص لـ"عربي21"، "أعتقد أن هذا أحد التنازلات التي قدمتها السلطات الفرنسية للبقاء جزءاً من عملية وقف إطلاق النار، حيث كان من المقرر في البداية استبعاد فرنسا من هذا الاتفاق".
من جهته قال المحلل السياسي، حسام شاكر، حول الحصانة، إن "الموقف صدر من الخارجية الفرنسية، وليس من الحكومة، وكل الأطراف ذات الصلة في فرنسا، وهو بمثابة موقف سياسي يفتقد إلى أي أرضية قانونية حقيقية".
وأوضح شاكر لـ"عربي21"، أن "هذا الموقف السياسي يمنح الانطباع بأن باريس لن تتعاون مع الجنائية الدولية، رغم أنها مُلزمة وفقا لميثاق نظام روما والأنظمة القضائية ذات الصلة بتنفيذ أمر الاعتقال، لو أن نتنياهو أو أي شخص آخر موجود على الأراضي الفرنسية".
ويرى أن "حديث الخارجية الفرنسية هو موقف سياسي لا أساس قانوني له، حتى وإن حاول إعطاء انطباع بأن الأمر يتعلق فقط بحصانة الدول، وبالطبع الموقف الفرنسي متناقض، ففي البداية موقف فرنسا كان واضحا من هذا الأمر بأنها مسألة قضائية وأنها ستتعامل مع المحكمة، ومن جهة أخرى تتحدث عن حصانات الدول التي لم توقع ميثاق روما".
وأوضح شاكر أنه فيما يخص حصانة الدول "فإن فرنسا لم تقم به في قضايا أخرى مست زعماء وقادة دول لم تكن موقعة على ميثاق روما، ومنهم الرئيس بوتين والرئيس عمر البشير، كذلك في قضايا منظورة ضد بشار الأسد في القضاء الفرنسي في هذا الشأن".
وأضاف: "فرنسا وتحديدا الخارجية هنا تحاول أن تتذاكى في إخراج موقف سياسي يفتقد لأي أرضية قانونية حقيقية، لكن هنا لا بد أن نلحظ بأن الأمر لم يخرج عن سياق عام معروف، وهو انحياز واضح للجانب الإسرائيلي منذ بداية حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة منذ سنة".
ما علاقة اتفاق لبنان؟
صحيفة "
لوموند" الفرنسية، قالت في تقرير لها، إن "المحكمة الجنائية الدولية تعرضت لضربة قاسية من قبل إحدى الدول المؤسسة لها، والتي تفتخر أيضًا بأنها: موطن حقوق الإنسان".
وتابع
التقرير الذي ترجمته "عربي21": "أصدرت فرنسا بيانًا غامضًا يقوض سلطة هذه الهيئة القضائية ومذكرة الاعتقال التي أصدرها قضاتها ضد بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سياق الحرب على غزة".
وقالت الصحيفة إنه "وفقًا لمصادر متطابقة، كان الهدف من هذا البيان تجنب قطع العلاقات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي طعن في دور الوسيط الذي تطالب به باريس في البحث عن وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بشق الأنفس في لبنان، والذي أعلن عنه مساء الثلاثاء جو بايدن وإيمانويل ماكرون".
وأوضحت الصحيفة أن: "الخارجية الفرنسية أصدرت توضيحا بأنه لا يمكن إلزام دولة بالتصرف بشكل يتعارض مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدول غير الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية".
وترى أن: "هذا التوضيح المزعوم بمثابة صاعقة، حيث جاء على خلفية التوترات المتكررة بين الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية، بعد أسابيع من المفاوضات لتأمين وقف إطلاق النار في لبنان، لدرجة أن نتنياهو، وفقًا لمصدر رفيع المستوى، طلب من الرئيس الفرنسي عبر الهاتف، يوم الجمعة، التحدث ضد قرار المحكمة".
وأردفت أن: "نتنياهو كان مصرا للغاية وكرر التهديد الذي أطلقه في الأشهر الأخيرة: بتحدي جهود الوساطة الفرنسية في لبنان، واستبعادها من اللجنة المشرفة على وقف إطلاق النار المحتمل، على عكس نصيحة بيروت وواشنطن، اللتين أصرّتا بدلا من ذلك على إبقاء باريس".
إدانة أممية
بدورها، رفضت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، الخميس، الادعاءات الفرنسية بأن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يمكن أن يستفيد من الحصانة في القانون الدولي.
ولفتت ألبانيز إلى أن: "هذه الحصانة لا أساس قانوني لها، وإن مثل هذا الوضع غير ممكن بحسب ادعاءات فرنسا"، مشيرة إلى أنه: "تم حل هذا الوضع في قضية عمر البشير".
وأكدت ألبانيز، أنّ: "منع تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية سيكون انتهاكا للمادة 70 من نظام روما الأساسي".
وأشارت إلى ما وصفته بـ"النهج المتناقض"، وهو الذي تتبعه فرنسا تجاه أوامر اعتقال نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مردفة أن هذا الوضع: "كيل بمكيالين".
هل يتم الاعتقال؟
حديث الخارجية الفرنسية عن حصانة الزعماء، أثار أيضا تساؤلات عدّة، حول ما إذا كانت الحكومة الفرنسية سوف تضغط على القضاء الفرنسي لمنع تنفيذ مذكرة الاعتقال ضد نتنياهو في حال زيارته باريس.
المحلل السياسي، حسام شاكر قال، إن: "بيان الخارجية الفرنسية ليس قرار حصانة حكوميا ولكنه صدر كموقف إعلان سياسي منها وعلى ما يبدو بناء على إملاءات إسرائيلية معينة".
وتابع، "الآن كيف ستتصرف فرنسا لو زارها نتنياهو؟ هذا سيبقى في حكم ما سيقع، لكن المؤكد أن مذكرتي الاعتقال مثّلتا إحراجا كبيرا للحلفاء الأوروبيين والمقربين من الجانب الإسرائيلي، بمن فيهم فرنسا"، فيما استفسر، "هل سيقيد فرص اللقاء والزيارات المتبادلة مع قادة الاحتلال الإسرائيلي؟".
وحول التصرف الفرنسي في حال زار نتنياهو أو غالانت، باريس، هل سيتم اعتقالهما أم لا؟، قال شاكر: "ستحاول فرنسا منع الزيارة أساسا، وسوف تبلغ الجانب الإسرائيلي أنها والدول الأخرى لا تستطيع أن تضمن عدم اعتقالهما إن حصلت الزيارة".
وأضاف: "أما إذا كانت هناك نية لتحدي قرار المحكمة الجنائية الدولية وعدم تنفيذ أمر الاعتقال، فإن هذا سيسقط العدالة الدولية، وسيكون تنصلا من التزامات هذه الدول أمام المحكمة ونظام روما الموقعة عليه، وهذا سيكون له تبعات سياسية وإعلامية، وسيمثل مشكلة لهذه الدول في مستوى رصيدها من الالتزامات الحقوقية".