بعض الصدمات لا
تشفى، لذلك تصنع ندوبا، وهذه الندوب تشكل تلك الملامح المميزة والهوية الخاصة لكل جماعة.
نحن نشهد فتقا
زمنيا بدأ يخط ملامح لجرح تاريخي يتمركز في غزة، وهو امتداد لجرح فلسطين الذي أعمل
فيها الاحتلال معاوله وسكاكينه في العقود الماضية، لتتشكل
صدمة جمعية كحدث كارثي
يزعزع النسيج الأساسي للمجتمع والبنى التحتية، إضافة إلى الفقدان المروّع للأرواح.
تشكل الصدمة
الجمعية أزمة في المعنى، قبل أن تتحول إلى ذاكرة جماعية، وتتمظهر في نظام من
المعاني يسمح للجماعات بإعادة تعريف هويتها واتجاهها المستقبلي. أما بالنسبة
للضحايا، قد تكون ذاكرة الصدمة أداة تكيف لبقاء المجموعة، لكنها أيضا تعزز التهديد
الوجودي، مما يحفز البحث عن المعنى وبناء ذات جمعية عابرة للأجيال. أما الجناة،
فإن ذاكرة الصدمة تشكل تهديدا على
الهوية الجمعية، وقد يتم التعامل مع ذلك بإنكار
التاريخ أو التقليل من مسؤولية الخطأ أو تغيير ذاكرة الحدث أو إغلاق باب التاريخ
أو قبول المسؤولية، وغالبا ما يأتي الاعتراف بالمسؤولية مع التنصل من المجموعة.
هذا يعيدنا إلى
حدث قتل الإمام الحسين على يد جيش يزيد بن معاوية، وقطع رأسه مع شباب أهل البيت من
أبناء الإمام الحسن والإمام الحسين وأبناء السيدة زينب، وكذلك أسر نساء آل بيت
النبوة بأمر من يزيد.قُتل الحسين عطشانا يرجو شربة ماء، مخذولا، بثلاث
وثلاثين طعنة وثلاث وأربعين ضربة، قطع رأسه وجيء به إلى يزيد.
في تماهٍ مع شخصية الحسين وآل بيته، وفي تحمّل
الشيعة تاريخيا تلك
المسؤولية عن موت الحسين، في قفزة مميزة من مثلث كاربمان الذي يحدد أدوار
الصراع للظالم والضحية والمنقذ في رسم تخطيطي لكيفية تبادل المشاركين للأدوار في
الصراع بين الأدوار الدرامية الثلاثة، بقي ذلك الجرح التاريخي
النازف الذي ينزّ ألما لم يبرأ بعد، ولا أظن أنه سيشفى. فقد تعهد الشيعة بتغذية
ذلك الحزن ليعيش، وأججوا ما استطاعوا ذلك الغضب ليتحول إلى جرح عميق وعاطفة حارة
ملتهبة صهرت كل الاختلافات في بوتقة دامت ألفا وأربعمئة عام، حتى أنتجت في عصرنا
الحالي الثورة الخمينية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان، ليصبح الجرح
تعبيرا عن أي مظلومية تاريخية، حيث حولوا التقية إلى مواجهة، والانتظار الأسود من
أمل صامت إلى انتظار أحمر ثوري محرك للفعل.
وعلى اعتبار أن تاريخ المطالبة بالعدل تيار مستمر، وليس حوادث متفرقة، فلم يهبّ
إبراهيم فجأة لتحطيم الأصنام، وثم في لحظة تحدث الثورة والنجاة من الأسر بقيادة موسى
ضد فرعون. من مكان ما تحدث المصادفة التاريخية بأن يقوم رسول الإسلام بالاشتباك مع
أصحاب العبيد وتجار قريش والإمبراطوريات الباغية، ومن ثم يمكن أن تحدث أحداث متفرقة
هنا أو هناك، أو لا تحدث، وتنتصر أو لا تنتصر.
لا يعكس مفهوم الصدمة الجمعية مجرد حقيقة تاريخية أو تذكر حدث فظيع وقع لمجموعة من الأشخاص، بل يشير إلى أن المأساة تُجسّد في الذاكرة الجمعية للمجموعة، وكما هو الحال مع جميع أشكال الذاكرة، فهي لا تتضمن فقط إعادة إنتاج للأحداث، بل تشمل أيضا عملية إعادة بناء مستمرة للصدمة في محاولة لفهمها
وفي هذا إدارة فاعلة لتلك الصدمة الجمعية، قد تماثل في تأثيرها استخدام
اليهود للهولكوست في إحداث وجودهم الحالي وفي تأكيد على أن الصدمة حتى الفردية، لا
يمكن الشفاء منها حقا، لكن يمكن أن نحسن إدارة تبعاتها. الصدمة ليس ما حدث لك، بل
كيف تنظر إلى ذلك الحدث.
فما الجرح الذي ننتظره نحن السنّة لنصبح فاعلين، غير دورنا المنقذ للحكم
الإسلامي بعد انتهاء الخلفاء الراشدين في تبرير للحكم الملكي الذي اختطف أي نموذج
لحكم سياسي إسلامي يمكن اعتباره مرجعا نستنير به تاريخيا، والذي هو زاوية من زوايا
مثلث كاربمان الدرامي، في تنصل تاريخي صارخ لمسؤولية قتل الحسين وآل البيت.
وفي محاولة لفهم ردود الفعل النفسية الناجمة عن حدث صادم
يؤثر على مجتمع بأكمله، لا يعكس مفهوم الصدمة الجمعية مجرد حقيقة تاريخية أو تذكر
حدث فظيع وقع لمجموعة من الأشخاص، بل يشير إلى أن المأساة تُجسّد في الذاكرة
الجمعية للمجموعة، وكما هو الحال مع جميع أشكال الذاكرة، فهي لا تتضمن فقط إعادة
إنتاج للأحداث، بل تشمل أيضا عملية إعادة بناء مستمرة للصدمة في محاولة لفهمها.
تختلف الذاكرة الجمعية للصدمة عن الذاكرة الفردية لأنها تستمر بعد حياة الناجين
المباشرين من الأحداث، ويتم تذكرها من قبل أفراد المجموعة الذين قد يكونون بعيدين
زمنيا ومكانيا عن تلك الأحداث الصادمة. قد تتذكر الأجيال اللاحقة من الناجين من
الصدمات -التي لم تشهد الأحداث الفعلية- هذه الأحداث بطريقة مختلفة عن الناجين
المباشرين، ومن ثم قد يأخذ بناء هذه الأحداث الماضية أشكالا وصورا مختلفة من جيل
إلى آخر.
المثير للدهشة هو أننا ربما نحن أهل
السنة نعيش صدمة جمعية مخفية، مع أن
هذا مستهجن، فكيف يمكن لصدمة جمعية أن تكون مخفية، مثل الفيل في الغرفة الذي لا
يراه أحد لأنه كبير جدا وحسب، كل منا يمسك جزءا منه؟
إن مثل هذه
الذاكرة الجمعية لكارثة عانى منها أسلاف مجموعة ما قد تؤدي إلى ديناميكية
"الصدمة المختارة" التي تربط بين الصدمة والذاكرة والأمان الوجودي (Volkan,
1997)، ويتم تصور هذه
الصدمات المختارة كسرديات تؤكد على أن "العبور عبر الدماء" ضروري في
طريق الحرية والاستقلال وأمان المجموعة (Resende and Budryte, 2014).
تعتبر الذاكرة
الجماعية للأحداث الصادمة هي عملية ديناميكية في علم النفس الاجتماعي مكرّسة بشكل
أساسي لبناء المعنى. وإن إنشاء المعنى والحفاظ عليه يشمل الإحساس باستمرارية
الذات، والارتباط بين الذات والآخرين والبيئة (Baumeister and Vohs, 2002;
Heine et al., 2006)،
والشعور بأن وجود الفرد له قيمة. إنها عملية بناء هوية تشمل الإحساس بتقدير الذات،
الاستمرارية، التميز، الانتماء، الفعالية، وفي النهاية الإحساس بالمعنى (Vignoles et al., 2006).
ترتكز
الكثير من النظريات والأبحاث حول الصدمة الجماعية على الهولوكوست، لأنها تعتبر
النموذج الأول للإبادة الجمعية في القرن العشرين، وقد حازت اهتماما وبحثا أكبر
مقارنة بغيرها من الصدمات الجمعية.
وهنا نفهم كيف أن
الذين مروا بالصدمات الجمعية، يقومون ببناء المعنى من خلال نقل التعاليم والتقاليد
المستمدة ثقافيا التي تعزز الحفاظ على المجموعة، كذلك تضخيم هذه التقاليد المرتبطة
بالمخاوف الوجودية وزيادة الدافع لدمج الصدمة في نظام رمزي للمعنى، حيث عززت
الصدمة الإحساس بالذات الجمعية التي تمتد عبر الأجيال، وزادت من تماسك المجموعة وتمايز
الهوية الجمعية. وهكذا يكرس المعنى العميق الناجم عن الصدمة الجمعية ذكرى الصدمة
ويؤدي إلى رفض طي صفحة الماضي؛ حيث تصبح الصدمة الجمعية مع مرور الوقت، تصبح
الصدمة الجماعية محور هوية المجموعة، والمنظور الذي من خلاله يفهم أعضاء المجموعة
بيئتهم الاجتماعية.
بالنسبة لأعضاء
المجموعات التي قامت بالانتهاكات في المقابل، تمثل الصدمة الجماعية تهديدا للهوية، حيث تخلق توترا بين الرغبة في رؤية
المجموعة بصورة إيجابية والاعتراف
بالانتهاكات الأخلاقية الجسيمة التي ارتكبت في الماضي. وقد يدفع عدم القدرة على
التوفيق بين طبيعة المجموعة الحالية وطبيعتها في الماضي أعضاء المجموعة، وخاصة
أولئك الذين يرتبطون بها بشكل وثيق، إلى تصور وجود انقطاع تاريخي للمجموعة، مما
يساعد في إبعاد الأعضاء الحاليين عن مرتكبي الجرائم في الماضي.
أحيانا يتجلى هذا
الانقطاع في الرغبة في إغلاق باب التاريخ وعدم الرجوع إليه، وأحيانا يتم التستر على الفصول المظلمة من
تاريخ المجموعة، مما يخلق فجوة غير مريحة في الذاكرة الجمعية، كغياب يشير إلى حضور.
وقد يتعامل أعضاء هذه المجموعات مع الفصول المظلمة في تاريخهم من خلال الإنكار
الكامل للأحداث، وتنصلهم منها، ورفضهم تحمل أي مسؤولية عنها. ولكن في كثير من
الأحيان، تتخذ ردود الفعل على التاريخ غير المريح شكلا أكثر تعقيدا، حيث يعيد
أعضاء المجموعة بناء الصدمة بطريقة أكثر قبولا، ويعيدون تقديمها بطريقة تقلل من
المسؤولية الجماعية.
إذا اعتبرنا أن التعامل الأمثل مع الصدمة في الفكر الغربي هو التصالح مع الجلاد والتقبل والشفاء والتكيف على المستوى الفردي، فإن تاريخنا يقودنا إلى أن أفضل طريقة للتعامل مع الصدمة الجمعية هي تحويلها إلى أداة لحفظ المعنى والفكر والهوية والوجود
في بعض الحالات،
يكون التنافر بين قيم المجموعة الحالية وسلوكها في الماضي كبيرا، لدرجة أن
الانفصال عن المجموعة يصبح الخيار الوحيد الممكن.
فما الذي نحن بانتظاره أهل السنّة لنصبح فاعلين على الساحة متحملين
لمسؤولية وجودنا أكثر من جرحنا التاريخي مع أمريكا من أفغانستان مرورا بالعراق
ولبنان وفلسطين، تقاطعا مع الكيان المحتل؟ هل أخذنا دور الشيعة في التقية خوفا،
وفي الانتظار أملا؟
لكن هذا التحليل
لمعنى الصدمة الجمعية يقدم اقتراحا مثيرا بأن الصدمة ليست مجرد حدث مدمّر، بل هي
أيضا مكون لا غنى عنه في بناء المعنى الجمعي. وبناء على ذلك، قد تحقق مجموعات
الضحايا مكاسب ثانوية من الصدمة الجمعية، غالبا ما يتم التغاضي عنها، والتي تعمل
على إبقاء ذكرى الصدمة حية، مما يدفع الأجيال اللاحقة إلى دمج تلك الصدمة في
ذواتهم الجماعية.
أما بالنسبة
لمجموعات الجناة، فإن الصدمة تعمل كحافز يعزز بناء تمثيل اجتماعي جديد، وإذا نجح
هذا التمثيل، فإنه يمكن أن يدعم الذات الجمعية التي تعترف بالتجاوزات الماضية
بطريقة لا تكون دفاعية أو مشلولة، بل تعزز الهوية الاجتماعية الإيجابية القائمة
على الانتصار على الإخفاقات السابقة. بناء على ذلك، تصبح هناك طرق بديلة لتذكر
الصدمة الجمعية التي يمكن أن تكسر دوامة إعادة تمثيل الماضي بشكل قهري عبر
الديناميكيات الدفاعية؛ وهي طرق قد تصالح بين "حروب المعاني" بين
المجموعات ذات التاريخ المتشابك، وتقلل من التوتر والعداء بين الجماعات.
وإذا اعتبرنا أن التعامل الأمثل مع الصدمة في الفكر الغربي هو التصالح
مع الجلاد والتقبل والشفاء والتكيف على المستوى الفردي، فإن تاريخنا يقودنا إلى أن
أفضل طريقة للتعامل مع الصدمة الجمعية هي تحويلها إلى أداة لحفظ المعنى والفكر والهوية
والوجود. فهل نستطيع القول إن الأمم ذات الجروح التاريخية محظوظة لأنها هي التي تحفظ
لهم أسباب البقاء؟ كيف يمكن تحويل الصدمة التاريخية إلى أداة لحفظ المعنى وديمومة
الوجود؟