تشهد الساحة السياسية التركية خلال الآونة الأخيرة تصاعدا في حدة التوترات بين الحكومة والمعارضة، على خلفية قرارات الحكومة بعزل ستة رؤساء بلديات منتخبين خلال شهر واحد، في تصعيد يعاكس التوجه الذي اتخذه الجانبان قبل أشهر قليلة بهدف تليين المشهد السياسي الداخلي والحد من حدة الاستقطاب.
وأثار قرار الحكومة التركية عزل ستة رؤساء بلديات في مناطق مختلفة من البلاد على خلفية تهم متعلقة بـ"الإرهاب" موجة غضب واسعة من معسكر المعارضة الذي اعتبر أن القرارات التي أدت إلى تعيين مسؤولين حكوميين بديلا عن الرؤساء المنتخبين، تعد تدخلا في اختيارات الناخبين.
ويأتي هذا التصعيد بعد فترة قصيرة من محاولات الحد من حدة الاستقطاب السياسي الداخلي بين حزب "العدالة والتنمية" الحاكم وحزب "الشعب الجمهوري"، أكبر أحزاب المعارضة، بعد الانتخابات البلدية التي شهدت تقدما كبيرا للأخير في آذار /مارس الماضي.
وأدت المبادرة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان للقاءات غير مسبوقة منذ سنوات بين قادة الحزبين، لكن ما لبثت حدة المشهد الداخلي أن عادت إلى التصاعد على خلفية مطالبات المعارضة بانتخابات مبكرة وقرار الحكومة عزل رؤساء بلدية في منطقة أسنيورت بإسطنبول، ورئيس بلدية ماردين الكبرى، ورئيس بلدية باتمان، ورئيس بلدية منطقة هليفتي في شانلي أورفا، بالإضافة إلى مناطق أخرى.
وأشارت الحكومة إلى أن قرارات العزل تستند إلى قضايا تتعلق بمكافحة "الإرهاب" وتعزيز الأمن القومي، فيما ترى المعارضة أن هذه الإجراءات تقوّض إرادة الناخبين وتُضعف المؤسسات الديمقراطية، لافتة إلى أن معظم المسؤولين الذين تم عزلهم ينتمون إلى أحزاب معارضة، أبرزها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي "ديم".
وتلقي التطورات الأخيرة بظلال من الشك على مسار التطبيع الذي تبنته الحكومة خلال الأشهر الماضية، وما أعقبه من دعوات من أردوغان لتعزيز الوحدة الوطنية، إلى جانب مبادرات، مثل تلك التي أطلقها زعيم حزب "الحركة القومية" دولت بهتشلي، لمحاولة معالجة المسألة الكردية.
وكان بهتشلي، الذي يعد أحد أهم حلفاء أردوغان في تحالف الجمهور الحاكم، أشعل الأوساط السياسية المحلية في نهاية شهر تشرين الأول /أكتوبر الماضي بعد كشفه عن مبادرة تسفر في نهايتها عن إطلاق سراح زعيم حزب العمال الكردستاني، المدرج على قوائم الإرهاب في
تركيا وعدد من الدول الغربية.
ويبرز تساؤل حول ما إذا كانت عودة الاستقطاب تُعبّر عن صعوبة الحكومة في احتواء المعارضة، بينما تشير وجهات نظر أخرى إلى أن هذه السياسات قد تُعبر عن ضغوط داخلية تواجهها الحكومة، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي أثرت على شريحة كبيرة من المواطنين.
وفي السياق الإقليمي، يأتي هذا التوتر المتصاعد في المشهد السياسي التركي الداخلي بالرغم من دعوات أردوغان إلى تعزيز الجبهة الداخلية من أجل تعزيز قدرة تركيا على مواجهة ما وصفه بـ"التهديدات الإسرائيلية" المحيطة في بلاده على وقع الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على العديد من دول الشرق الأوسط.
المشهد الداخلي بين الشد والجذب
في حديثه عن المشهد السياسي الداخلي، أشار الكاتب التركي بكير أتاجان إلى التصريحات الصادرة عن أردوغان، التي تؤكد على أولوية الأمن القومي التركي وتعزيز وحدة الصف الداخلي في مواجهة التهديدات.
وأضاف أتاجان في حديثه لـ"عربي21"، أن تصريحات زعيم حزب "الحركة القومية" دولت بهتشلي جاءت مكملة لهذا التوجه التصالحي، حيث قال الأخير إن "الأكراد هم جزء من الأمة التركية"، ودعاهم إلى "الابتعاد عن الإرهاب والمشاركة في الحوار داخل البرلمان".
على الجانب الآخر، أشار الباحث محمود علوش إلى أن المعارضة، وخصوصا حزب "الشعب الجمهوري"، تشعر بقلق متزايد من التحركات الحكومية تجاه الحالة الكردية.
وأوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن حزب "الشعب الجمهوري" يسعى إلى تقديم نفسه كمعارض لسياسة "الوصي" التي تتبعها الحكومة تجاه الأكراد، مشيرا إلى أن خطاب التحالف الحاكم التصالحي مع الأكراد قد يُضعف علاقة المعارضة بحزب المساواة وديمقراطية الشعوب "ديم"، وهو ما قد يؤثر على التحالفات السياسية القائمة.
وأكد علوش أن هذا الاستقطاب يأتي في إطار المعركة السياسية القادمة حول مشروع تعديل الدستور، الذي يُعتبر ساحة جديدة للتنافس بين القوى السياسية في البلاد.
مبادرة بهتشلي
ويعد النداء الذي وجهه زعيم "الحركة القومية" إلى رئيس حزب "العمال الكردستاني" أحد أبرز التوجهات التي أشارت إلى عمل الحكومة على تعزيز الجبهة الداخلية في ظل تصاعد التوترات بشكل متسارع في منطقة الشرق الأوسط.
وبالرغم من أن هذه المبادرة شهدت تراجعا عن المشهد بعد قرارات عزل رؤساء البلديات، إلا أن بهتشلي عاد يوم الثلاثاء بتصريحات جديدة تفيد بمواصلته مسار حل مشكلة حزب "العمال الكردستاني".
وقال بهتشلي: "نتوقع عقد لقاء وجها لوجه بين حزب (ديم) وإميرالي (حيث يسجن أوجلان) دون تأخير ونكرر دعوتنا"، مضيفا: "كفى من الألم، السلاح ليس خيارا، هدفنا هو السياسة الشاملة"، حسب تعبيره.
بحسب أتاجان، فإن مبادرة بهتشلي تأتي كخطوة استباقية استعدادا لـ"المعركة الكبرى المقبلة"، مشيرا إلى أن هناك رؤية مشتركة بين الحكومة وتحالف "الجمهوري" بشأن التهديدات التي تواجه تركيا، رغم الاختلاف في الأساليب والتصريحات.
من جهته، رأى علوش أن مبادرة بهتشلي تهدف إلى تحقيق توازن بين عدة أهداف. فمن جهة، تسعى الحكومة التركية إلى فتح قنوات للتواصل مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل، في محاولة لإيجاد حلول للصراع. ومن جهة أخرى، تحاول الحكومة الحفاظ على موقف متشدد في مكافحة الإرهاب لمنع حزب العمال الكردستاني من استغلال هذا الانفتاح لتعزيز تأثيره على السياسة الداخلية.
وأشار علوش إلى أن المبادرة تهدف أيضا إلى إظهار الانقسام داخل حزب العمال الكردستاني، بين أوجلان وقيادة قنديل التي تُعرف بمواقفها الراديكالية. كما تسعى للحد من قدرة حزب الشعب الجمهوري على استثمار علاقته بحزب المساواة وديمقراطية الشعوب "ديم" لتعزيز مكانته في السياسة الداخلية.
الأبعاد الإقليمية
سلط أتاجان الضوء على الأبعاد الإقليمية لتحركات الحكومة التركية، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تواصل تنفيذ استراتيجية طويلة المدى لزعزعة استقرار المنطقة، وذلك من خلال دعم الجماعات المسلحة مثل حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ووحدات حماية الشعب (YPG).
وتعتبر تركيا هذه التنظيمات بالإضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" امتدادا لحزب "العمال الكردستاني"، الذي يتخذ من جبال قنديل شمالي العراق مقرا له.
وأكد أتاجان أن هذا الدعم الأمريكي يمثل تهديدا مباشرا لتركيا، ما دفع الحكومة التركية إلى اتخاذ خطوات تصالحية مع الأكراد داخل البلاد لقطع الطريق أمام استغلال هذه الجماعات.
وقال الكاتب التركي في حديثه لـ"عربي21"، "بينما يتم فتح باب السلام ويتم التأكيد على أنه لا توجد مشكلة داخلية مع الأكراد، يتم تحديد أن المشكلة مع الأكراد هي خارج الحدود، أي مع كل من PYD/YPG، وهي تهديد حقيقي لتركيا".
في السياق نفسه، أوضح علوش أن أحد الدوافع الرئيسية وراء مبادرة الانفتاح على أوجلان هو التعامل مع المخاطر الإقليمية المتزايدة، ولا سيما التحديات التي تفرضها إسرائيل.
ولفت الباحث إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعتقد أن هذه المخاطر قد تُوفر فرصة لتركيا لتبني نهج أكثر فعالية في التعامل مع "مشكلة الإرهاب"، وفي الوقت نفسه إقناع الإدارة الأمريكية، وخاصة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، بالانسحاب من سوريا دون الإضرار بالمصالح التركية.
علاوة على ذلك، شدد علوش على أنه من غير الممكن عزل مبادرة بهتشلي عن السياسة التركية في سوريا، موضحا أن مثل هذه الخطوات قد تُساعد أنقرة في إقناع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا وعدم القلق بشأن آثار مثل هذا الانسحاب على الحالة الكردية الإقليمية.
وكان الرئيس التركي قال قبل أيام في حديثه مع الصحفيين على متن طائرته عائدا من البرازيل بعد مشاركته في قمة العشرين في البرازيل، إن بلاده "مستعدة للتعامل مع الواقع الحالي والوضع الجديد الذي سيحدثه الانسحاب الأمريكي المحتمل من سوريا".