مقالات مختارة

هل ستبقى أمريكا عظيمة مجدَّدًا؟

الأناضول
يُعدّ “دونالد ترامب” الرئيس الـ47 في تاريخ أمريكا، ومن المقرَّر أن يُنصّب رسميًّا يوم 20 جانفي 2025م، بعد أن فاز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لعهدة ثانية غير متتالية يوم الثلاثاء 05 نوفمبر 2024م، وهي الانتخابات الأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا، إذ بلغ إجمالي الإنفاق فيها نحو: 15.9 مليار دولار.

لقد كان من أهم الشعارات التي رفعها “ترامب” منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية الأولى سنة 2016م: “لنجعل أميركا عظيمةً مجددًا”، وأنه سيجعلها تشهد عصرًا ذهبيا جديدا.

وقد تأسَّست منظمةٌ سياسيةٌ متطرفةٌ داعمةٌ له تسمى”ماغا”، وهي اختصارٌ لهذا الشعار الانتخابي، مع أن هذا الشعار ظهر أول مرة عام 1980م في خطاب الرئيس الأسبق “رونالد ريغان”، ثم تبنَّاه الرئيس الأسبق “بيل كلينتون” عام 1992م، ثم جاء “ترامب” ليعيد إحياءه منذ 2016م، وهو الشعار المغري والجذاب للأمريكيين، وخاصة مع تصاعد اليمين المتطرف في أمريكا والعالم.

وتعود خلفيات هذه الإيديولوجيا إلى الاعتقاد بأن أمريكا كانت دولةً عظيمة، ولكنها فقدت هذه العظمة بسبب تنامي النفوذ الأجنبي فيها، بسبب الهجرة والتعددية الثقافية والعِرقية والعولمة.

وبالرغم من التفويض الكبير والفوز فوق المتوقع في هذه الانتخابات الرئاسية، مقارنة مع فترته الرئاسية الأولى (2016م- 2020م)، فقد فاز بالتصويت الشعبي بأكثر من 75.7 مليون صوت مقابل 72 مليون ناخب لمنافسته الديمقراطية “هاريس”، وفاز على مستوى المجمع الانتخابي بـ: 312 صوت مقابل 226 لمنافسته، مع أنه يحتاج إلى 270 صوت فقط.

وبالرغم من منبر القوة لمنصب الرئيس في أمريكا، وهذا الفوز الكبير لترامب، وسيطرته على مؤسسات السلطة في أمريكا (الرئاسة والأغلبية في الكونغراس بغرفتيه: مجلس الشيوخ والنواب)، والذي يُعدّ أكبر إعادةٍ للاعتبار في التاريخ السياسي لأمريكا، ومع ذلك تبقى تساؤلاتٌ جوهريّةٌ مطروحة، منها: هل يملك “ترامب” القدرة على تشكيل العالم كما يريد؟ وهل سيتحقق شعاره الانتخابي: “لنجعل أميركا عظيمةً مجددًا”؟

في ورقةٍ بحثيةٍ لتقدير الموقف من فوز “ترامب” بعهدة رئاسية ثانية، تحت عنوان: “السياسة الخارجية الأمريكية في الرئاسة الثانية لترامب”، للأستاذ الدكتور: وليد عبد الحي، والذي كتبه لصالح مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت بداية هذا الشهر نوفمبر 2024م، أكد عبد الحيّ بأنَّ ما يعنينا في نتائج الانتخابات الأمريكية هو السياسية الخارجية والبعد الدولي للإدارة الأمريكية الجديدة، وبالرغم من المؤسسية الأمريكية القوية في السياسة الخارجية لها، إلا أن النزعة الفردية وطبيعة الشخصية النرجسية والبراغماتية لترامب على حساب القيم والمبادئ والقانون الدولي قد تؤثر في البعد الدولي والسياسة الخارجية لأمريكا، فقد رفع في هذه الانتخابات 3 شعارات، ترسم ملامح التوجه العامّ في السياسية الخارجية لها،

وهي: 1. البعد الوطني القومي على حساب البعد العالمي الأممي (المصلحة الأمريكية للوطنيين على حساب الأمميين أو المصالح الأخرى ولو كانت مصالح الحلفاء والأصدقاء). 2. التخلي عن النزعة التدخُّلية العسكرية في العالم إلا للضرورات القصوى (الوعود بإنهاء النزاعات والحروب، وتحديدًا في أوكرانيا والشرق الأوسط). 3. أولوية الاقتصاد على باقي الأولويات السياسية والعسكرية.


ثم تحدَّث عن التوجُّهات الكبرى لترامب في عهدته الرئاسية الثانية، وهي: 1/ العلاقة مع أوروبا وحلف الناتو: إذْ لا ينظر إلى حلف الناتو بإيجابية، فهو يراه عبئًا اقتصاديًّا على أمريكا، وقد يكون الضحية المقبلة للرئيس ترامب، إذ طالب في أكثر من مناسبة بضرورة الدعم الأكبر من الأعضاء في الحلف، وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة، إذْ بلغت النفقات الأمريكية على الناتو في عهدته الأولى 71 %، بينما يرى بأنَّ الدول الأوروبية لا تنفق إلاَّ 2 % من ناتجها الداخلي، بل تعمل على تخفيض ذلك، وهو ما يفرض على الإدارة الجديدة الضغط على أوروبا لتولي المسؤولية اتجاه الناتو.

بالإضافة إلى سياسة الحماية التجارية “لأميركا أوَّلاً”، وفرضية اندلاع حروبٍ تجاريةٍ بينهما بسبب الرسوم الجمركية التي تعهَّد “ترامب” بفرضها على السلع الأوروبية، والتهديد بجعل الاتحاد الأوروبي “يدفع ثمنًا باهظًا” لعدم شراء ما يكفي من الواردات الأميركية، إذْ بلغ العجز التجاري الأميركي أمام الاتحاد الأوروبي 124 مليار دولار في 2024م، وهو ما يسعى إلى إنهائه من خلال التوصل إلى صيغةٍ تجاريةٍ تنهي هذا العجز المخزي.

2/ مراجعة الدعم الأمريكي لأوكرانيا: يرى “ترامب” بأنَّ حجم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا تتجاوز مجموع ما تقدِّمه أوروبا بأكملها، وهو ما يعتبره غير منطقي، ويدعوه إلى مراجعة هذا العبء الذي تتفرَّد به بلاده، مما يجعل روسيا أكثر ارتياحًا في الجبهة الأوكرانية.

3/ العجز الاقتصادي مع الصين: هناك اختلالٌ للميزان التجاري مزعجٌ لترامب، والذي وصل في نهاية 2023م إلى 279 مليار دولار لصالح الصين، وهو ما يدفعه إلى الضغط الاقتصادي عليها، والذي قد يؤدي إلى تدمير التجارة بين البلدين، وخفض معدل النمو الاقتصادي السنوي في الصين إلى أكثر من النصف، وهو ما لا تسمح به، وستتَّخذ تدابير قاسية في مواجهة ذلك وحماية اقتصادها، والذهاب إلى اعتماد إجراءاتٍ رسميةٍ عقابيةٍ على الشركات الأمريكية، وفرض قيودٍ على تصدير المواد التي تحتاجها أمريكا لتكنولوجياتها الإستراتيجية، وذلك ضمن إستراتيجية الردع الاقتصادي.

4/ استغلال توجُّهات إيران: من أجل تعميق هواجس الدول الخليجية منها، وممارسة الضغط والابتزاز لزيادة إنفاقها العسكري، وتحريك دولاب دخل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وتشديد الحصار الاقتصادي على إيران…”. إلا أنَّ الملف النووي الإيراني يمثِّل تحدِّيًا كبيرًا أمام “ترامب” خلال عهدته الحالية، فإيران الحالية تختلف عن إيران خلال عهدته الرئاسية الأولى سنة 2016م، فقد عزَّزت من علاقاتها الإستراتيجية مع الصين وروسيا، وطبَّعت علاقتها مع السعودية برعايةٍ صينية، وتجاوزت “الصبر الاستراتيجي” لأول مرة منذ 45 سنة، بالمواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الصهيوني بضربتين عسكريتين في أفريل وأكتوبر 2024م أعادت بهما توازن الردع الاستراتيجي، بعد امتلاكها للقوة الصاروخية والفضائية، وخشية الجميع من تغيُّر عقيدتها النووية، والخوف العملي من توجيه ضرباتٍ إلى منشآتها الحيوية، فقد عجزت إسرائيل اليمينية المتطرفة عن ذلك في ردِّها الأخير يوم 26 أكتوبر 2024م.

ولا تزال إيران وحلفاؤها في محور المقاومة مصممين على الذهاب بعيدًا في المواجهة العسكرية مهما طالت آمادها، وتحدي غرور القوة للعسكرية “الصُّهيو– غربية” مهما بلغ تفوُّقها المذهل، فقد هدَّد المرشد الإيراني “علي خامنئي” قائلاً: “أنَّ الأعداء بمن فيهم الولايات المتحدة وإسرائيل سيتلقَّون ردًّا صارمًا على ما يفعلونه ضدَّ إيران والمقاومة، وإيران لن تتراجع عن مواجهة العدو، ولن تترك أي تحرُّكٍ من جانبه من دون رد”، وقال المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني العميد “علي محمد نائيني”: “إنَّ الرد الإيراني على إسرائيل أمرٌ حتمي، وسيكون حاسمًا وقويًّا ومدروسًا، وأبعد مما يتصوَّره العدو..”، وأنَّ إيران مستعدة للمواجهة مع إسرائيل حتى بعد فوز ترامب.

لقد كتب الصِّحافي “مارك أوربان” في جريدة “الصنداي تايمز” البريطانية بأنَ هناك كوابح جديدة في وجه “ترامب”، ستؤثر على سياساته الخارجية، وتعرقل تحقيق شعاره، ومنها:

1- الدَّيْن الحكومي الضخم: والذي تعاني منه أمريكا بإطرادٍ مخيف، والذي وصل إلى 35 تريليون دولار (35 ألف مليار دولار) ، أي 123% من الناتج الداخلي الخام، والذي ستدفع التوجهات الجديدة لترامب بتخفيض الضرائب إلى ارتفاعه، كما تبلغ تكلفة سداد فائدة هذا الدَّيْن 17% من الإنفاق الحكومي، وهو لا يهدد الجاهزية العسكرية لأمريكا فقط، بل قد يصل إلى التسبب في أزمة مالية عالمية.

2- الحروب الاقتصادية: هناك تحذيراتٌ من توجهات “ترامب” التي قد تؤدي إلى تصاعدٍ حادٍّ في التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وكلٍ من الصين والاتحاد الأوروبي. وهي من العوامل المؤثرة كذلك في السياسة الخارجية له، فقد هدَّد بفرض 60% من الرسوم الجمركية على السلع الصينية، و20% على السلع الأوروبية، وهو ما سيزيد في ارتفاع نسبة التضخُّم، والتأثير على سلاسل التوريد.

3- الأحداث غير المتوقعة: مثل ما حدث مع إدارة “بايدن” في معركة “طوفان الأقصى”، ابتداءً من 7 أكتوبر 2023م، وكانت من بين الأسباب التي أدَّت إلى هزيمته في هذه الانتخابات.

إن استمرار عدم الاستقرار في العالم وتطوراته غير المتوقعة، مثل جرأة إيران على ضرب إسرائيل، أو تهوُّر حكومة نتنياهو المتطرفة بضرب المنشآت الحيوية لإيران، قد تشعل حربًا إقليمية أو عالمية، فتؤثر على الخيارات المستقبلية لترامب.

– ضعف العسكرية الأمريكية: والتي فقدت الردع في العديد من نقاط العالم، رغم توزُّع قواعدها العسكرية في كل مكان، وقد أثبتت الحرب في أوكرانيا والحرب الصهيونية على قطاع غزة ولبنان وتوسعها إلى جبهات محور المقاومة، الخشية الحقيقية من تآكل رصيد المخزون العسكري الأساسي لأمريكا، وهو ما جعلها تتجه إلى وقف هذه الحروب، وعدم تحمُّل تكاليفها، فقد قال في خطاب النصر الذي ألقاه بعد إعلان النتائج بأنه: “لم تكن لدينا حروب” خلال فترة إدارته السابقة، وأنه في الوقت الذي قال فيه آخرون إنه سيبدأ الحروب: “لن أبدأ حربًا، وسأوقف الحروب”، وهو ما يعني التراجع الأمريكي في مركزيتها في العالم، ويؤثر سلبًا عليها في تنافسيتها المحمومة مع الخطر الاستراتيجي الحقيقي لها، وهو الصين.

لا شكَّ بأنَّ تبنِّي “ترامب” للاتجاه الانعزالي، ونظرته غير الودية اتجاه الحلف الأطلسي، وسياسته الحمائية في العلاقات التجارية مع أوروبا، وحروبه الاقتصادية التَّصادمية مع الصين، والتردُّد وعدم اليقين في مواجهة إيران، وعدم حاجته المستقبلية إلى دعم اللوبي الصهيوني لعدم منافسته على أي منصب، وتناقضاته في الموقف من الحرب التي تخوضها إسرائيل في المنطقة، واعتبارها عِبئًا لا يقلُّ عن أوكرانيا، وتراجعه عن التدخُّل العسكري في العالم، ومراجعة دعمه لأوكرانيا بما سيريح روسيا، كلُّ ذلك يبعث على إبقاء تلك الأسئلة المشروعة والمشكِّكة في بقاء أمريكا عظيمة مجدَّدًا، وسخافة قدرة “ترامب” على تشكيل العالم كما يريد؟

الشروق الجزائرية