"سمعت طائرة هليكوبتر تحلّق بجانبي، وصفارات الإنذار تدوي، وزقزقة الطيور، وسمعت الناس من حولي. أستطيع أن أشم رائحة الهواء النظيف والمغبر في آن. أشعر باهتزاز المبنى تحت قدمي، فأدرك مدى ارتفاعي" هكذا عبّرت ساسي وايت، وهي الثلاثينية التي فقدت بصرها بالكامل قبل حوالي عقد من الزمن.
وايت التي تُحب السّفر حول العالم، كانت رحلتها الأخيرة إلى نيويورك هي الثانية، بعدما زارتها وهي مبصرة حين كانت تبلغ من العمر 16 سنة؛ فقارنت وايت بين هاتين الرحلتين، واكتشفت أنها لم تتمكّن من تحديد مدى ضخامة واتساع المكان، كما كان الأمر عليه في الزيارة الأولى، بالقول: "لم أتمكن من تحديد حجم المباني والمساحة الشاسعة، واضمحلال المباني في الأفق".
وفي الوقت الذي كانت فيه وايت برفقة صديقتها المقربة، تقفان في الطبقة 102، والتي وصفت لها منظر بحر ناطحات السحاب الممتد أمام ناظريها، أعربت عن مشاعرها بالقول إنّ هذه التجربة "أعادت إحياء المدينة في داخلها بطريقة مختلفة".
"السفر متاح للجميع"
"عَمايَ ساعدني على رؤية العالم بشكل أفضل" تعرب وايت عن إحساسها بالأمل، جراء كل تجربة سفر، في إشارة إلى أنها فاقدة للبصر وليس للرؤية.
وايت التي نشأت في المملكة المتحدة، مع أبوين أعطيا الأولوية للسفر. وتتذكر الأوقات السعيدة التي قضتها معهما في "رحلات التخييم، ورحلات القوافل، ثم الذهاب إلى أوروبا لمدة أسبوع واحد، أو اثنين".
وبدأت حكاية وايت، في السابعة من عمرها، حيث كسرت ذراعها. وكان الأمر مؤلما، لكن لم يُثر القلق إلا بعد وقت قصير من الإصابة، عندما بدأت تعاني من تورم غير مبرر في جميع أنحاء جسدها. وبعد معاينة الأطباء شُخصت بأنها مصابة بالتهاب المفاصل، الذي بدأ بمهاجمة أعضائها، ما تسبب بالتورم وعدم الراحة.
فأمضت الكثير من الوقت في طفولتها على كرسي متحرك. ثم، في سن الرابعة عشرة، بدأ التهاب المفاصل يؤثر على بصر وايت. حيث تتذكر أنها بدأت تشعر بالكثير من الالتهاب والألم الشديد في عينيها، بالإضافة إلى احتقان الدم. وروت أن رؤيتها "بدأت تصبح ضبابية بعض الشيء". وتم تسجيل وايت على أنها كفيفة، في أواخر مراهقتها.
وتقول وايت، إن والديها عزّزا لديها اعتقادًا قويًا بأن "السفر متاح للجميع". فسافرت مستخدمة الكرسي المتحرّك خلال معظم طفولتها، وتبنّت عائلتها الموقف القائل: "سنكتشف ذلك، إذا لم يكن لدينا الإجابة، فسنجد شخصًا لديه الإجابة".
وقالت في حديثها إلى شبكة "سي إن إن": "استغرقني الأمر عامين تقريبًا كي أتمكن من الوقوف على قدمي جسديًا، والتعامل مع وضعي، والحصول على الدعم لصحتي العقلية والجسدية".
وتابعت: "أصابتني حالة من الاكتئاب، لكنني أدركت أيضًا أنني لا أريد أن تتوقف الحياة. لذلك بدأت العمل التطوعي في منطقتي المحلية، وتقديم الدعم للأشخاص الذين كانوا تحت مجتمع الكفيف"، فيما استعادت وايت ببطء الإحساس بالذات والهدف. بدأت بمواعدة زوجها الحالي، وهو صديق قديم كان إلى جانبها خلال هذه المرحلة العصيبة.
الشغف بالسفر
المتابعون لوايت قد ازدادوا بسرعة، حيث بدأت حضور المزيد من مؤتمرات السفر والاجتماعات الصناعية. والتقت بأشخاص يسافرون لكسب لقمة العيش، وأدركت أنه رغم أن الشغف بالسفر يجمعهم، إلا أن وايت غالبا ما كانت أحد الأشخاص ذوي الإعاقة الوحيدة في الغرفة.
وتابعت: "كان الناس مهتمين بتجربتي الحية، مثل: كيف أسافر، وكيف أنجز أموري، وكيف يمكن للوجهات الأخرى أن تعزز من تسويقها، أو إدراجها الرقمي، أو فنادقها وعملائها، الجانب الكامل من السفر، كيف يمكنهم جعله أفضل للأشخاص ذوي الإعاقة". وأدركت أنه في الإمكان توسيع نطاق هذا الأمر وتحويله إلى مهنة.
واليوم، تعمل وايت بدوام كامل كمستشارة في مجال السفر وإمكانية الوصول، بهدف "المساعدة على تغيير مشهد السياحة التي يسهل الوصول إليها".
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وعلى مدونتها، تتحدث بصراحة عن تجاربها، الجيدة منها والسيئة. تنشر مقاطع فيديو تشرح كيفية تعاملها مع عروض السلامة على متن الطائرة، والمدونات حول كيفية حجز مساعدة خاصة في المطار.
وأشارت بصراحة إلى الإحباطات والقيود المفروضة على المكفوفين أثناء السفر، مثل الحاجة للوصول إلى المطارات في وقت أبكر بكثير من المسافرين الآخرين. كما أنها تتبنى الفكاهة، وتقدم لمتابعيها النصائح والأفكار حول ما يجب عليهم فعله في إجازاتهم.
كذلك، إن وايت تقوم بالكثير من الأبحاث دومًا قبل القيام برحلة، وعادة ما تبحث في المدونات والكتب والمقالات للتعرف على وجهتها. حيث تشعر أن "معظم الناس، إذا كانوا مسافرين ويحاولون إطلاعك على تجربتهم، فسوف يكتبون بكل حواسهم الخمس، عما رأوا وكيف عبروا عنها".
وقالت: "ما أحبه في السفر الإثارة المجهولة التي يمكنك الحصول عليها منه. نعم، يمكنك التخطيط جيدا، ويمكنك وضع برامج تجعل وقتك جديرًا بالاهتمام في ذلك البلد، أو في تلك الوجهة. ولكن الأمر يتعلق بقول نعم لما هو غير متوقع، ورؤية إلى أين يأخذك".
تصف وايت نفسها بأنها "كتاب مفتوح"، فهي تحب إقامة علاقات جديدة عندما تسافر. تستمتع بالدردشة مع الغرباء في الحافلات والقطارات، والإجابة على أسئلتهم وإطلاعهم على حقيقة تجربتها كامرأة كفيفة تسافر حول العالم.
وأشارت وايت إلى أنّ زوجها شريك سفر رائع و"مرشد ممتاز"، لافتة إلى أنه "جيد جدا في وصف العالم من حولي؛ والتحف المعروضة في المتاحف، ويحب مشاهدة الناس، لذا فهو يشرح لي أشياء كهذه، وهو ما أجده رائعا حقا".