مدونات

مراجعات.. الابتلاء

"يجري اختبار المنظومة العقلية وقدرتها على إدارة الحياة والأفكار والإبداع"- جيتي
مدخل:

عندما نتحدث عن المراجعة، فإننا نتحدث عن أمر موسوعي يحتاج إلى موارد بشرية خاصة عالية الثقافة واسعة التفكير، مبدعة تفكر خارج الصندوق، وهي من الأمور المهمة التي تحتاجها المراجعة. وسبق هذا المقال عدة مقالات في موضوع المراجعة، وكيف أنها إن لم تضبط وفق قواعدها فهي ليست أكثر من زيادة الثقة بالخطأ، وإن لم تحدد أطرها، فإن عملية المراجعة محض بحث فشل في التكتيك، بينما الفشل قد يكون في الاستراتيجية أو تحديث الأيديولوجيا.

في حركات عقدية كالإسلامية، وهي ما يهمنا، هنا أن نفهم التالي:

1- ما هو الكون؟

2- ما هي الحياة؟

3- ما هو الإنسان؟

4- المهمات التي تحيط بخلق الآدمية ووجودها في الأرض.

5- معاني كالقضاء والقدر، الحضارة والمدنية، معنى الابتلاء والبلاء، وهكذا معان هي مفاهيم وليست مصطلحات، لكنها مما يؤسس عليه في الواقع، والفهم الجيد لها يعني فهما للحياة، وسيرا في طريق الحق، وابتعادا عن طريق الشر.

الماهيات الثلاث الأولى، تعبر عن تعريف ماهية الفكر، ولا يعد الفكر فكرا حضاريا ما لم تكن له نظرة عن الكون والإنسان والحياة. والحديث عنها يحتاج إلى كتب كبيرة، بيد أننا نقول؛ إن الكون هو خلْق الله بانفجار عظيم وما زال يتسع، وأن الحياة هي أن تكون ذات مهمة ومعنى بالنسبة للآدمية، وعموم المخلوقات أمم مُسخّرة وليست مكلفة كالآدمي، ومهمة الإنسان في الأرض عمارتها وديمومة السلالة، ومن خلال السعي يجري اختبار المنظومة العقلية وقدرتها على إدارة الحياة والأفكار والإبداع، نحن لسنا لتحقيق إرادة الله بما نظن أنه يرضيه، وإنما وجودنا بإرادته.

الإنسان في الأرض إذن ممتحن بمنظومته العقلية وتدويره للمعلومة بما يعمر الأرض، ويضع أسس الحياة ويتفاعل معها، فهناك الغني وهناك الفقير وهناك العاقل وهناك الأرعن والمخبول، وهذا ما لا حساب عليه وقد يكون امتحانا لغيره، بقي موضوع الابتلاء.

الابتلاء

ما يصيب الإنسان من شر ليس ابتلاء، وبالذات ما يكون بسبب المنظومة العقلية. الابتلاء الرباني في الرزق بأنواع الرزق والنعم، أما النجاح والفشل في تقدير الأمور، فهو من المنظومة العقلية عندما تتعلق الأمور في إدارة الحياة كمنظومات حكومية أو حزبية أو حتى أشخاص، والرزق بحد ذاته ابتلاء الوفرة والنقص، لكن تدبير الخالق للمخلوق واحد، فليس من إنسان يجمع كل شيء، فهناك مبتلى بالمال، أو الجاه، المنصب، أو المواهب، بعضها وليس كلها، فيزيد أحدها وينقص الآخر، وتبقى المنظومة العقلية تدير تلك المعطيات لسد النواقص، وقد يبتلى الإنسان فيها زيادة أو نقصانا.

الخلط بين الابتلاء والفشل هو ما يحصل غالبا عند المنظومات المؤدلجة كالتنظيمات الدينية، ويستعاض عن هذا عند العلمانيين واللادينيين بجملة: "يتآمرون علينا ولا يدعوننا نعمل أو ننجح". وأركز هنا على التنظيمات الدينية؛ لأنها تعدّ الابتلاء قدرا مقدورا ليغيب الاعتبار، فعندما تضع الفشل كابتلاء، فإنها ستستسلم لأنها ستعدّه مزيدا من الاختبار والأجر، ولا تأخذه كفشل منظومة، ومن ثم تلحق كوادرها والبلد تبعات يمكن تجاوزها بحسن التخطيط والتعامل مع المشكلة بحجمها، فتخطئ في موضع المراجعة؛ أهو من مفصل التنفيد الفلاني أم من بداية الخطة أم من أين؟ بينما يكون الخطأ في فهم الفكر ومطابقته مع الواقع.

وقد يعدّ هذا من المحرمات، وهو فهم خاطئ لتعامل الفكر مع الواقع وقراءته ليقود الزمان والواقع إلى الأمام، وليس إعادته إلى الخلف والعيش في التاريخ والماضي، أو إجبار الواقع على التخلف ليتناسق زمانيا مع الماضي، أو نقل المشاكل إلى الحاضر جراء نقل خلافات زمنها إلى الواقع. وهي أمور تديّن غريزي وليست دينا؛ لأن الواقع اليوم يحتاج منظومة ونظام إدارة، وما يأخذه من الدين هو القيم الأخلاقية وفكرة العدل والإحسان والتكافل الاجتماعي، ونشر المحبة والتفاعل مع متعدد العقائد على نسق واحد، وتلك قراءات لا بد أن تظهر.

أما السلطة الشكلية والاسمية دون القيم الأخلاقية والعدل وإقامة العدالة بالقوانين وتفسيرها بلوائح تطبيقية، فهو إفساد في الأرض يحتاج إلى تغيير بما يقيم العدل، فهو فشل للمنظومة العقلية الآدمية في الإدارة، بأن السلطة في الإسلام هي توفير الأجواء وتحرير المنظومة العقلية وإتاحة الخيار لها ومساعدتها برفدها بالمعرفة وشرحها.

التطور الحياتي والتوسع الفكري:

ما يجعل الابتلاء ليس بلاء، هو التفكير والاعتبار من التجربة وتحليلها، وهنا لا بد من مواصفات خاصة لمحلليها، وليس بذكر المحاسن أو النقاط الإيجابية واعتبار السلبية نوعا من الابتلاء. هذا عين البلاء إن لم تفهم الأمور بشكل صحيح، ويكون الاعتبار المؤدي للتصحيح. الاعتبار هو من يجعلك لا تعيد ذات خطوات الفشل، وهو ما يوسع الأفق في المهمة ويعدل برنامجك، وسيحدد لك السير بالدين القويم وليس بغريزة التدين أو أمنيات أوهام الذاكرة المعرفية بأنك تضع برامجك، وليتبعها الجميع شاء من شاء وأبى من أبى، كأي أيديولوجيا قومية أو غيرها عدمية تمحق الحاضر وتنفجر منتحرة بأهلها وشعوبها في المستقبل، فهذه ليست مشاريع عمارة الأرض، وإنما فضاءات فوضى الغرائز، كما حب السيادة والتملك يقود للظلم والاستبداد، كذلك غريزة التدين.