لا يغني حذر من قدر!
فعندما جاء
وائل الدحدوح الى الدوحة بعد أن أدى وعائلته
فريضة الحج، تشرفت باللقاء به، وقد أقام أحد الزملاء في قناة
الجزيرة غداء على
شرفه، دعا إليه أكثر من عشرين صحفيا في أحد المطاعم اليمنية، وكنت قد نسيت تفاصيل
هذا اليوم، وقبل أيام طلبت من أحد الزملاء أن يمدني بصورة لي في اللقاء، فقال لي
لقد كنت زاهدا في التصوير. فهل كنت زاهدا حقا؟!
عندئذ تذكرت تفاصيل ما جرى؛ فقد كنا نعلم أن وائل
الدحدوح عائد إلى
غزة، وفي طريق عودته لا بد من أن يمر من مصر، وقد تفتح مثل هذه
الصورة شهية ضابط لسين وجيم، ويحمّل الأمر أكثر مما يحتمل، وربما يصنف الحضور على
أنهم خلية، اجتمعت لتبحث كيف تعيد الإخوان للحكم!
ولهذا، فعندما نشر أحد الحاضرين صورة لهذه
"الوليمة"، طالبته برفعها، وبدا لافتا أن الجميع التزموا بعدم النشر،
بدون طلب، فهل كان يشغلهم ما يشغلني؟!
احتجاز في مطار القاهرة:
لا تستطع الأنظمة العسكرية أن تستوعب، بعد كل هذه العقود من الحكم، أن الصحافة مهنة علنية بطبيعتها، وما لدى الصحفي يقوله أو يعلنه، ولا يوجد لديه ما يخفيه تحت سترته أو في جيوبه، لأنها ليست تنظيما سريا، كما أن العاملين فيها لا يتاجرون في الممنوع
مرت الأيام والأسابيع، وربما الشهور، وعلمت بخبر التحفظ
على وائل في مطار القاهرة، وبذلك عرفت أنه لم يسافر من الدوحة إلى مصر، ولكنه سافر
للخارج للعلاج، ومن هناك ذهب للأردن لزيارة بعض أقربائه، ثم عاد من هناك الى
القاهرة، ليتم إيقافه لساعات طويلة، وإن سمحوا لزوجته بالخروج، لتنتظره عند أهل
لها في القاهرة. فها هي غزة ومصر بلد واحد، وكان القطاع تحت الحكم المصري عندما
احتُل بعد هزيمة 1967، والمفروض أن على مصر واجبا أخلاقيا تجاهه وتجاه أهله، لكن
ظل هذا الواجب يلتزم به الشعب المصري لا الأنظمة العسكرية الحاكمة، التي ضيعت غزة
بسبب تحرشها بإسرائيل، وتصورها أن أمريكا تقف على مسافة واحدة من الكيان ومصر!
ما علينا، فلم يمنع حذري من التصوير مع وائل من قريب،
ولو صورة واحدة للتاريخ وقد لا يتكرر اللقاء، من توقيفه في مصر، لأن وائل مطلوب
لذاته، ولمسقط رأسه، ولعمله. لكن ما الذي يجعل السلطات المصرية تقوم بتوقيف صحفي،
لم يخرج من بلده عبر الأنفاق، لكنه خرج بشكل رسمي، ومن معبر رفح؟ وماذا يمكن أن
يكون في تحركاته ما يغري هذه السلطة بعملية التوقيف؟!
لا تستطع الأنظمة العسكرية أن تستوعب، بعد كل هذه العقود
من الحكم، أن
الصحافة مهنة علنية بطبيعتها، وما لدى الصحفي يقوله أو يعلنه، ولا
يوجد لديه ما يخفيه تحت سترته أو في جيوبه، لأنها ليست تنظيما سريا، كما أن
العاملين فيها لا يتاجرون في الممنوع! فهي في أحد تعريفاتها "غلبانة،
ومسكينة، وصوتها عال، ومن يأتي عليها لا يكسب"، وهو الوصف الذي قاله نقيب
الصحفيين كامل زهيري للرئيس السادات فطابت نفسه، بعد أن كان يريد تحويل النقابة
إلى ناد أسودة بنادي القضاة، فهل لا تزال ضعيفة، ومسكينة، بعد قناة الجزيرة التي
صارت مدفعية ثقيلة، هزت عروشا، وواجهت رياحا صرصرا عاتية؟!
ظل وائل الدحدوح قرابة الـ24 ساعة رهن التحفظ في مطار
القاهرة، قبل أن يخلى سبيله، وكانت الجزيرة على الخط، وهذا طبيعي، إنما الجديد أن
نقابة الصحفيين المصريين اهتمت بالأمر، وهو أمر لم يكن سيحدث لو ظل التشكيل
العسكري البائد مسيطرا عليها، والذي أسقطته الجمعية العمومية في آذار/ مارس
الماضي، وإن كانت إزالة آثار العدوان تحتاج إلى وقت طويل!
وقد وصل وائل وزوجته إلى غزة، فبعد قليل كان العدوان
الإسرائيلي، وكأنه ذهب لقدره، وعندما علمت بخبر استشهاد زوجته وأفراد من أسرته،
قلت لو أنه وجد موتورا يحيله للنيابة لتحيله بدورها للسجن، فلم تكن زوجته ستغادر، وكانت
ستستمر في القاهرة، لكنها أقدار الله!
السفر للقاهرة:
لقد اختارت نقابة الصحفيين المصريين وائل الدحدوح شخصية
العام الصحفية، وكان من المفروض أن يأتي للقاهرة للتكريم، وللعلاج أيضا، لأن يده
التي أصيبت من جراء العدوان الإسرائيلي، تحتاج لعملية دقيقة، وداخل مجلس النقابة
رأي أن وائل كفّى ووفّى، وأنه ما دام مستهدفا من الجانب الإسرائيلي، فعليه أن يبتعد
قليلا في "استراحة محارب"!
لأنه أكثر من إنسان، فقد صار عنوانا للإنسانية، وللمهنة، وللحقيقة، وذكرنا بعبارة لعل أول من صكها هو مصطفى أمين؛ في وصف مهنة الصحافة بأنها مهنة البحث عن المتاعب، واجتهد البعض مع هذا النص، وقالوا بل مهنة البحث عن الحقيقة
وعلمت أنه تم الحصول على موافقة السلطات المصرية بسفره
للقاهرة، وعدد من أفراد أسرته، من بينهم ابنه حمزة، لكن القائمة لم تشمل ثلاثة
منهم، فاعتذر عن السفر!
وكان من المفروض أن يغادر القطاع يوم الاثنين الماضي،
ومعه ابنه الشهيد حمزة، لكنها أقدار الله. ووائل يرفض تماما فكرة البقاء في
القاهرة طويلا فربما يغادر بعد التكريم وبدون انتظار فترة طويلة يقتضيها علاجه، لأنه
يرفض أن يغادر غزة ويترك زملاءه هناك.. يا له من شخص أكثر من إنسان!
ولأنه أكثر من إنسان، فقد صار عنوانا للإنسانية،
وللمهنة، وللحقيقة، وذكرنا بعبارة لعل أول من صكها هو مصطفى أمين؛ في وصف مهنة
الصحافة بأنها مهنة البحث عن المتاعب، واجتهد البعض مع هذا النص، وقالوا بل مهنة
البحث عن الحقيقة!
الحقيقة التي دفع وائل الدحدوح ثمنها الآن من لحم الحي،
وكنت عندما أراه يستمر في تأدية عمله، ويداعب أطفال بلدته، ويظهر باسما، أقول
مقولة دارجة كان أهلنا يرددونها إذا ذبحوا طيرا وبعد ذلك قام وتحرك وكأنه ليس
مذبوحا: "سرقاه السكينة"، وعندما تسكت المدافع ويخلو لنفسه سيبدأ الحزن
كبيرا. وكنت أرى أن نفسه قد تسكن قليلا، برؤية ابنه حمزة، لكن ها هم النازيون
الجدد يستهدفون حمزة أيضا، ليلحق بوالدته وشقيقه وشقيقته، وابن شقيقته!
لم يترك العدو لوائل سوى أطلال بلد، وأطلال منزل، وأطلال
حياة، وإن كنا نعلم أن المحنة قد لا تتوقف عند هذا الحد، فالنازيون الجدد يستهدفون
عنوانا مهما من عناوين القضية الفلسطينية!
وكلما حدث العدوان على غزة، كان وائل الدحدوح هو صوت
الحقيقة وعنوانها، فينقل جرائم العدو، بدون تهويل منه، فالحقيقة أكثر مرارة من أي ادعاء!
مثال المصداقية:
لأنه وائل الدحدوح فهو هدف لعدوان مجرم، ولعدو فاقد للشرف والإنسانية، فيقتل بدم بارد أكثر من 120 صحفيا، دون موقف من واشنطن أو العواصم الأوروبية في مواجهة هذا العدوان الغاشم
على مدى ربع قرن من عمله في الجزيرة لم يُضبط وائل
الدحدوح متلبسا بفبركة، أو مدانا بنشر الأكاذيب، ولو فعل لما احتاجوا لممارسة هذا
الإجرام للانتقام منه، ولفقد الثقة والاعتبار، لكن وائل هو مثال من لحم ودم
للمهنية، وللصحافة عندما تصبح رسالة، ولخطر الصورة والكلمة!
وهو يقدم رسالته بصوت خفيض، مفعم بالمشاعر الإنسانية، فصار
هذا الصوت عنوانا لقضية بلاده، واستطاع أن يجمع بين أمرين؛ المهنية والانحياز، لكن
وائل صنع هذا كله، بدون أن يتحول إلى خطيب، أو ينتقل إلى الخطابة، أو أن يفقد
اتزانه فيأخذه الانحياز الى ساحة الكذب والتلفيق!
ولأنه وائل الدحدوح فهو هدف لعدوان مجرم، ولعدو فاقد
للشرف والإنسانية، فيقتل بدم بارد أكثر من 120 صحفيا، دون موقف من واشنطن أو
العواصم الأوروبية في مواجهة هذا العدوان الغاشم!
إن الدحدوح لم يعد فقط عنوانا للحقيقة، ولكنه صار عنوانا
للصمود والصبر، وصدق من وصفه بنقيب الصابرين، ونحن نراه مع كل محنة صابرا محتسبا.
فيا جبال الصبر الجميل أوّبي معه!
twitter.com/selimazouz1