نشرت صحيفة "
الغارديان"
مقالا للصحفية نسرين مالك حيث بدأت
بتوجيه سؤال للقارئ: "ما الذي يربطك ببلدك، ويجعلك تشعر أنه مُلك لك؟ ما
الذي يمنحك الشعور بالهوية والانتماء؟"، ثم أجابت عن السؤال بقولها: "إنها الأشياء المادية بالطبع - المكان
الذي تعيش فيه، والمكان الذي ولدت فيه، والمكان الذي تقيم فيه عائلتك وأصدقاؤك".
وتابعت: "لكن أعتقد أن هذه الجوانب المادية تكمن وراءها كل الأشياء الأخرى التي لا تفكر
فيها، والتي تعتبرها أمرا مفروغا منه. الموسيقى والأدب والفكاهة والفن والسينما
والتلفزيون - كل الجوانب التجريدية للهوية التي تشكل نسيجا ضاما بينك وبين بلدك".
ثم تقول إن سبب السؤال هو أن سؤال "ما الذي يصنع شعبا؟" يرتبط
مباشرة بسؤال "ما الذي يمحو شعبا؟" وما يجري في
غزة جعل هذا السؤال
ملحا. لأنه إلى جانب أهوال الموت والنزوح، هناك شيء آخر يحدث - شيء وجودي، نادرا
ما يتم الاعتراف به وربما لا يمكن عكسه.
وقالت إن ما يحصل يبدو هكذا.. ففي وقت سابق من هذا الشهر، دمرت الغارات
الجوية الإسرائيلية أقدم مسجد في غزة. كان المسجد العمري في الأصل كنيسة بيزنطية
تعود للقرن الخامس الميلادي، وكان أحد المعالم البارزة في غزة: إذ تبلغ مساحته 44
ألف قدم مربع من التاريخ والهندسة المعمارية والتراث الثقافي. ولكنه كان أيضا
موقعا حيا للممارسات والعبادة المعاصرة. وقال رجل من غزة يبلغ من العمر 45 عاما
لرويترز إنه كان يصلي ويلعب هناك طوال طفولته. وقال إن إسرائيل "تحاول محو
ذاكرتنا".
وأضافت أن كنيسة القديس برفيريوس، وهي الأقدم في غزة، والتي يعود تاريخها
أيضا إلى القرن الخامس ويعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، تعرضت لأضرار في
غارة أخرى في تشرين الأول/ أكتوبر. وكانت تؤوي النازحين، ومن بينهم أعضاء في أقدم
مجتمع مسيحي في العالم، وهو مجتمع يعود تاريخه إلى القرن الأول. وحتى الآن، تعرض
أكثر من 100 موقع تراث في غزة للأضرار أو للتسوية بالأرض. ومن بينها مقبرة رومانية
عمرها 2000 عام ومتحف رفح، الذي تم تخصيصه للتراث الديني والمعماري الطويل
والمختلط في المنطقة.
وأشارت في مقالها إلى أنه بينما يتم اقتلاع الماضي، يتم تقليص المستقبل
أيضا. فقد تم تدمير الجامعة الإسلامية في غزة، وهي أول مؤسسة للتعليم العالي تأسست
في قطاع غزة عام 1978، وتقوم بتخريج الأطباء والمهندسين في غزة، بالإضافة إلى أكثر
من 200 مدرسة.
استشهد سفيان تايه، رئيس الجامعة، مع عائلته في غارة جوية. كان رئيسا
لليونسكو للعلوم الفيزيائية والفيزياء الفلكية والفضاء في فلسطين. ومن بين
الأكاديميين البارزين الآخرين الذين قُتلوا عالم الأحياء الدقيقة الدكتور محمد عيد
شبير، والشاعر والكاتب البارز الدكتور رفعت العرير، الذي انتشرت قصيدته "إذا
كان لا بد لي من الموت" على نطاق واسع بعد وفاته.
وذكرت أنه كتب: "إذا كان لا بد لي من أن أموت، فلتكن هذه حكاية"،
مضيفة أنه حتى تلك الحكاية، وهي حكاية تشهد على الحقيقة، وسيتم نسجها في الوعي
والتاريخ الوطنيين للغزيين والفلسطينيين، سوف تجد صعوبة في أن تُروى بدقة. لأن
الصحفيين يُقتلون أيضا. فقد بلغ عدد من قتل منهم الأسبوع الماضي، أكثر من 60 صحفيا.
بعض الذين بقوا على قيد الحياة، مثل وائل الدحدوح من قناة الجزيرة، اضطروا إلى الاستمرار
في العمل بعد وفاة عائلاتهم. وفي الأسبوع الماضي، أصيب الدحدوح نفسه في غارة جوية
على إحدى المدارس. ولم ينج المصور الخاص به.
وقالت لجنة حماية الصحفيين، وهي منظمة
أمريكية غير ربحية، إن أولئك الذين ينشرون أخبار الحرب لا يخاطرون بالموت أو
الإصابة فحسب، بل "بالاعتداءات المتعددة والتهديدات والهجمات الإلكترونية
والرقابة وقتل أفراد الأسرة".
وقالت
إنه مع تعرض القدرة على رواية هذه القصص علنا للهجوم، كذلك الأمر بالنسبة لطقوس
الحداد وإحياء الذكرى الخاصة. وإنه وفقا لتحقيق أجرته صحيفة "نيويورك تايمز"،
تقوم القوات البرية الإسرائيلية بتجريف مقابر أثناء تقدمها في قطاع غزة، مما أدى
إلى تدمير ست مقابر على الأقل. ونشر أحمد مسعود، الكاتب الفلسطيني البريطاني من
غزة، صورة له وهو يزور قبر والده، إلى جانب مقطع فيديو لأطلاله. وكتب: "هذه
هي المقبرة في مخيم جباليا"، حيث دفن والده. "ذهبت لزيارته في شهر أيار/
مايو. لقد دمرته الدبابات الإسرائيلية الآن، واختفى قبر والدي. لن أتمكن من زيارته
أو التحدث معه مرة أخرى".
وأشارت
في مقالها إلى أن هناك فجوة في الذاكرة تتشكل. فقد تمت تسوية المكتبات والمتاحف
بالأرض، وما فقد من الوثائق التي احترقت ينضم إلى حصيلة أكبر من حفظ السجلات. وفي
الوقت نفسه، فإن حجم عمليات القتل كبير جدا لدرجة أن عائلات ممتدة بأكملها تختفي.
والنتيجة هي مثل تمزيق صفحات من كتاب.
قالت دينا مطر، الأستاذة في جامعة سواس في
لندن، لصحيفة "فاينانشيال تايمز" إن "مثل هذه الخسارة تؤدي إلى محو
الذاكرة والهوية المشتركة لأولئك الذين بقوا على قيد الحياة. الذاكرة مهمة. هذه
عناصر مهمة عندما تريد تجميع تاريخ وقصص حياة الأشخاص العادية".
وقالت كذلك إنه من المهم أن نتذكر، ومن السهل أن ننسى، من بين مشاهد الموت والدمار منذ تشرين
الأول/ أكتوبر، أن قطاع غزة مكان حقيقي، على الرغم من وجوده خلف سياج وتحت قيود
مشددة، لم يكن مجرد "سجن مفتوح فحسب". فهو يضم مدنا على البحر الأبيض
المتوسط مليئة بالشوارع التي تصطف على جانبيها الأشجار والزهور، وساحلا يوفر نوعا
من الراحة من الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي. وقد تم الآن تدمير الكثير منها أو
تجريفها بالجرافات.
وأكدت
أن القطاع كان أيضا مكانا ازدهر فيه الفنانون والموسيقيون والشعراء والروائيون،
وهو أمر طبيعي بين أي شعب يُتاح له الفرصة للتعبير عن نفسه، بغض النظر عن مدى
صعوبة الظروف.
وأضافت أنهم أيضا يختفون الآن. قُتلت هبة زقوت، رسامة الأماكن
المقدسة والنساء الفلسطينيات بملابسهن التقليدية المطرزة، في تشرين الأول/ أكتوبر،
بعد أيام قليلة فقط من نشرها مقطع فيديو على الإنترنت تقول فيه: "أعتبر الفن
رسالة أوصلها إلى العالم الخارجي من خلال تعبيري عن القضية الفلسطينية والهوية
الفلسطينية".
محمد
سامي قريقة، فنان آخر، كان يحتمي داخل أحد المستشفيات، ونشر على فيسبوك أنه كان
يوثق التجربة، "لنقل الأخبار والأحداث التي تحدث داخل المستشفى، ملتقطا
مجموعة من التفاصيل المؤلمة بكاميرا هاتفي، منها صور وفيديو وصوت وكتابة ورسم،
إلخ.. أقوم بجمع العديد من هذه القصص بتقنيات مختلفة". وبعد ثلاثة أيام قُتل
عندما أصيب المستشفى بصاروخ.
وختمت كاتبة المقال بجملة "هذا ما
سيبدو عليه الأمر، محو شعب. باختصار، إلغاء بنية الانتماء التي نعتبرها جميعا أمرا
مفروغا منه، بحيث أنه بغض النظر عن عدد سكان غزة الذين بقوا على قيد الحياة، بمرور
الوقت، فإن ما يربطهم ببعضهم البعض يتضاءل. هكذا سيكون الأمر عندما تحرمهم من
رواية قصتهم، ومن إنتاج فنهم، والمشاركة في الموسيقى والغناء والشعر، ومن التاريخ
التأسيسي الذي يعيش في معالمهم ومساجدهم وكنائسهم، وحتى في مقابرهم".