إن الأمة التي تنبت نبات المقاومة وتحارب حرب المقاومة لهي أمة حية لا تموت؛
كيف لا وقد واجهت حربا كونية ووجد فيها رجالها حاضنة شعبية لم تهن ولم تحزن ولم
تتخل عنهم وتؤثر السلامة في المنافي فأذهلت العالم بصبرها وصمودها.
هذه الطليعة بثت الروح في خلاياها التي ماتت بفعل طلائع مزيفة كانت تتبجح
بنضال لم نر أثره ولم نسمع منه إلا نواح الهزائم المتتالية منذ خمسين عاما.
مناحة ما بعد النكسة
ونقول نكسة حتى لا نذهب في نقاش جانبي عن كونها نكبة ثانية فاقت الأولى في
تخريب النفوس، انتشر بعدها وبسببها أدب عربي كثير وفي كل قطر عربي تقريبا ينوح على
أمة ميتة لا تتنصر أبدا. بدأه نزار قباني بقصيد طويل منه "أنعى لكم كلامنا
المثقوب كالأحذية القديمة"، وللطرافة كان هذا الشاعر يسكن في حضن سلطة هي
عنوان
الهزيمة. وفشت هذه المناحة في كل مكان تؤلف قصيدا واحدا وتكتب رواية متشابهة
لا تتغير فيها إلا أسماء الشخصيات، وكانت الندوات والعكاظيات تتناسل من بعضها بنفس
الوجوه وبنفس الأسماء لتقول جملة واحدة "لقد انهزمنا إلى الأبد ولم يعد هناك
أمل في النهوض". لذلك لما جاءت اتفاقيات سلام مع العدو انقلب هؤلاء القوّالون
الحزانى إلى القول بالواقعية وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان.
وتحول القول الأدبي العربي بأقلامهم وسينماهم في مجمله إلى تبرير ما يجري،
وعاد بعض خطاب التعايش السلمي متسربلا أحيانا بخطاب إنسانوي تحت يافطة
اليسار
العالمي المتحد لكن هذه المرة بحقوق الإنسان الكونية، وتحولت قضية التحرير إلى
قضية حقوقية يمكن علاجاها بقرارات محاكم دولية دون نبش مسألة الأرض والتاريخ
والعقيدة. لقد كان هذا القول الذي نجد منه أمثلة كثيرة من المغرب إلى العراق أقوى
تأثيرا من هزيمة 1967 العسكرية ومن الأثر التدميري لاتفاقيات السلام، لقد كانت
جيوش من المثقفين الذين يعيشون في حضن السلطات هم من يقود عملية تثبيط العزائم وبث
روح الاستسلام في الشعوب.
انزياح المناحة إلى حرب أهلية
وبمرور الوقت انزاح هذا القول من اتهام الأنظمة العربية بصناعة الهزيمة وخذلان
الشعوب إلى لعن الحركات الإسلامية التي صارت فجأة هي سبب الهزيمة. لقد حصل هذا
التحول بلا مقدمات، فقد حلل الأدباء المشهد وانتهوا بقدرة عجيبة إلى أن سبب
الهزائم العربية ليس الأنظمة التي تبين أنها تقدمية؛ بل الفكر الديني ومن يحمله
ومن يحاول إحياءه بين الناس.. هؤلاء هم من ينظم ولائم لأعشاب البحر أو الطحالب
التي تعشش في عقل الأمة.
ومولت الأنظمةُ الشعراءَ والأدباء ونشرت لهم ومكنتهم من صناعة الثقافة
بوزارات وموازنات ودوريات ومؤتمرات وجوائز دسمة؛ من أجل محاربة الفكر الديني
وتناسي من أبرم اتفاقيات التطبيع والاستسلام ومن حوّل قضية التحرير إلى قضية
مفاوضات وعرائض تظلّم ومسكنة إلى الأمم المتحدة. كان تمليك الثقافة ووسائلها
لليسار العربي قائد المناحة العربية المشتركة هو جزء من سياسة مضمرة انتهت بكسر
عزيمة الشباب وتحويل آمالهم وشغفهم إلى مطالب غريزية لا تشبع ولو أغرق فيها الشاب
حتى الموت.
هذه الروح المهزومة هي التي فتحت سوق المخدرات والجنس والهجرة بما هي تخلّ
عن أوطان وتاريخ، فمفعول ثقافة التيئيس والتتفيه التي صارت تدخل كل بيت ملك جهاز
بث وجهاز دش أو ربط بالنت (بحسب المرحلة) حول الشعوب العربية إلى أفراد أو جزر
منعزلة، وألغى كل لُحمة كانت تضم الناس حول قضية أو مطلب مشروع. وكان نسيان قضية
تحرير الأرض هو الهدف الكامن خلف إغراق الناس في غرائزهم، ولا عجب أن يكون هذا
الإغراق ممولا من بلدان النفط التي لم تستعمل تكنولوجيات البث المتقدمة إلا في هذا
الغرض.
من هذه الروح المحبطة ما نطالع اليوم من سخرية من المقاوم وهو يواجه قوى
نووية مدججة بالسلاح. كيف لهذا المقاتل الضعيف أن ينتصر؟ لكن هذا المقاتل الأعزل
إلا من عقيدته ينتصر على الأرض ويغير واقع اليأس والإحباط بأمل كبير وعظيم وواعد
بإنهاء مناحات اليسار الثقافي الذي يقف في لحظة المعركة مع اتفاقيات أوسلو ويبرر
الاستسلام.
يوجد أدب جديد
وإن لم يكتب فتجب كتابته أدب يقدم صورة عن المقاتل المنتصر قبل المعركة
وبعدها المقاتل الذي لا ينخذل بالتثبيط. قد يكون أدبا على شكل معلقات تحريضية في
مرحلة ما (وهو ما نسمع بعضه الآن تحت تأثير مباشر للمعركة وصورها) ولكنه حتما
سيتطور إلى نص هادئ طويل النفس يقدم
النصر على الهزيمة ويبث في الأرواح أملا
بتحرير الأرض وتحرير الإنسان، وإنهاء هذه الحالة الغريزية التي تشد الإنسان إلى
بطنه وفرجه كأنه سائمة بلا هدف ولا معنى، أدب يقوم أولا على التحرر من النماذج
والخطط والصور التي انتجت خارجه والتي عرفت انتصاراتها وهزائمها وانتحر بعضها
بمناحاته الخاصة باسم الوجودية العدمية.
ففي زمن هزيمة الأدباء العرب النائمين في أحضان الأنظمة تحول أدب الوجودية
العدمية الخارج من الحرب العالمية الثانية إلى نبوءات أدبية يقتدي بها كتاب وشعراء
يبكون إنسانا مهزوما لم يعرفوه؛ لكنهم استبطنوه وقاسوا أنفسهم عليه.
لقد حررت
غزة وقبل أن تنهي معركتها الميدانية الإنسان العربي من الخوف
والهزيمة، ونراها حررت النص الأدبي والخيال الثقافي عامة من أدب الهزيمة ومن
الأدباء المهزومين ومن الفن الهابط ومن الغريزية الفنية التي أفشاها في الناس
فنانون وأدباء وصناع رأي ثقافي مهزومون، وكات أغلبيتهم من اليسار واليسار الفرنسي
خاصة في بلدان شمال أفريقيا.
نرى غزة تمسح هذه الذلة والمسكنة وتدعو إلى تحرير الخيال وتحرض على قول
منتصر، وهي الإشارات التي وجب أن يتلقفها الأدباء فينهوا المناحة اليسراوية التي
مولتها السلطة. لقد خلقت غزة الإنسان العربي وولّدته من رحم هزائم طويلة وسيكون
بعض نصرتها إطلاق أدب العرب المنتصرين من سجون اليسار الثقافي المتفرنس منه خاصة.