بات واضحا اليوم أن وقفَ إطلاق النار في غزة لن يتم بقرار سياسي ولا بمواقف عربية أو إسلامية أو حتى دولية. السبيلُ الوحيد لوقف إطلاق النار هو بندقية الفلسطيني المقاوم وتكبيده العدو الصهيوني مزيدا من الخسائر.
تأكدوا بأن أي قرار لوقف إطلاق نار قادمٍ لن يكون بسبب ما يزعم البعض أنه ضغوط خارجية على الكيان أو الولايات المتحدة من العرب أو المسلمين أو من غيرهم، إنما سيكون بسبب واحد: فداحة الخسائر التي تتكبدها قوات الاحتلال في شوارع غزة المقاتلة. في اللحظة التي تعرف فيها هذه القوات أنها دخلت متاهة
المقاومة ولن تخرج منها سالمة، فقط وفقط في هذه اللحظة ستقبل بوقف إطلاق النار، الذي سيكون في كل الحالات، قد تأخَّر موعده أو تقدَّم، هزيمة جديدة للكيان بعد هزيمة السابع من أكتوبر.
صحيح أنّ هذا المحتل الغاصب يكون قد دَمَّر ولم يترك وسيلة إلا استخدمها لتحقيق أهدافه، إلا أنَّه في آخر المطاف سيخرج من غزة مُنكسِرا ذليلا غير قادر على العودة مرة أخرى مُعترِفا بهزيمته على كافة الجبهات.. ليس في ذلك أدنى شك.. كلَّما ازدادت همجية العدو تَبَيَّن أنه خسر المعركة وفشل في تحقيق أهدافه، وكُلَّما بَدَا أعمى في عدوانه تبيَّن أنه فقد بوصلته، وهو الذي يحدث الآن في غزة.. الشعبُ الفلسطيني يقاوم بإرادته قبل
سلاحه، وبصبره وثباته وعزته قبل وسائله.. وهو معدوم السلاح يقاوم، وهو في أشدِّ قمة المعركة يصمد، وهو يرى ميزان القوة في غير صالحه لا يبالي ويبقى واثقا من النصر.. وهو الأمر الذي لا يمكن للعدو الصهيوني إدراكُه.
لقد انتهت مرحلة “الانتصارات” التي كانت تتحقق فقط بسبب التفوق العسكري أو الاستخباراتي.. كلاهما هذه المرة سقط، لا السلاح أفاد الاحتلال لحماية نفسه ولا الاستطلاع مكّنه من ذلك.. هذه أسابيع وهو يحاول دخول مدينة محاصَرة مهدَّمة بالطيران، بلا جدوى، وهذه أسابيع وهو يحاول اكتشاف نفق واحد تحت الأرض دون جدوى، وهذه أسابيع وهو يحاول أسْر مقاوم واحد دون جدوى.. وهذه أسابيع وهو يحاول تحرير أسير واحد من أسراه دون جدوى رغم كثافة نيرانه وتفوقه الجوي التام والدفع بقوات النخبة لديه لمواجهة الموقف وتحريك كافة قواعده السرية وقواعد حلفائه بدون جدوى.. بيده سلاحٌ واحد هو قتل المدنيين، استقوى على مواقع واحدة هي المستشفيات ودور العبادة، تمكّن من هدف واحد وهو مساكن الأبرياء بالمخيَّمات والأحياء السَّكنية… ما الذي حققه خلاف ذلك؟ لا شيء… لذلك فإنه سيُضطر اضطرارا إلى وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والخروج من قطاع غزة ذليلا مُنكسرا.. ولن تكون الخسائر التي تسبَّب فيها من أرواح بريئة للمدنيين والأطفال والشيوخ والنساء سوى وصمة عار على جبينه تحفظها ذاكرة الأمم كما حفظت عار كل استعمار همجي خرج مثله مذموما مدحورا بعد أن عاث في الأرض فسادا.. إنها النهاية التي نراها رأي العين ولا نرى غيرها: من عمق المأساة يتجلى النصر، ومن عمق العَتَمة يبرُز النور.. رأيناه قبل عقود من الزمن في الجزائر، وسيراه إخوة لنا في فلسطين اليوم قبل الغد.. وما كلام الساسة في قِممهم، وتخطيط الغرب المستمرّ عبر دوله ومنظماته، إلا محاولاتٌ يائسة لوقف المسار المُسطَّر بسلاح المقاومة ودمائها… هكذا علمتنا التجربة وهكذا عشناها، ونحن أبناء ثورة تحريرية مباركة فقدنا فيها آباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأعزَّ ما نملك.. ولكننا في آخر المطاف، كما الفلسطينيون اليوم، فرضنا على العدو الفرنسي قبول وقف إطلاق النار والاعتراف باستعادة سيادتنا الوطنية على كافة ترابنا الوطني، وما كان أحدٌ قبل ذلك اليوم، يعتقد بإمكانية تحقيق هذا النصر، وما كاد أحدٌ يثق بأن البندقية ستتفوّق في الميدان على الدبابة والطائرة والصاروخ.. وهذا الذي يحدث اليوم في غزة..
ينبغي ألا تُثبِّط عزائمنَا خطبُ السياسيين الجوفاء، أو مطالبهم الجزئية المحدودة، أو استجداؤُهم للغرب غير المستجاب.. هناك فلسطينيٌّ يقف على أرضه شامخا ببندقيته وكبريائه وعزَّته يصنع نصره بيده وهو يطلب الشهادة بثقة وثبات سيضطرُّكم إلى وقف إطلاق النار.
(الشروق الجزائرية)