وُلدت
الأمم المتحدة وهي في حاجة إلى
الإصلاح، فقد كانت ثمرة توافق بين
الكبار المنتصرين في الحرب الكونية الثانية. ولأن التاريخ يكتبه على الدوام المنتصرون
وليس المنهزمون، فقد رسم مؤتمر يالطا لعام 1945، المنعقد في منتجع مطل على البحر
الأسود في الأراضي السوفييتية، صورة العالم ووزع الأدوار بين الكبار الثلاثة:
الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، والاتحاد السوفييتي، ما كرس الفلسفة
اتي قام عليها النظام الدولي منذ أن نشأ قاريا بن الأمم الأوروبية في أعقاب لإعلان
عن معاهدة وستفاليا سنة 1648، إلى أن أصبح عالميا بالتدريج مع اندلاع الحرب العالمية
الأولى، وصدور معاهدة فرساي لعام 1919، التي قضت أحكامها بإنشاء أول تنظيم دولي موسوم
بـ"عصبة الأمم"، لم يعمر طويلا، إذ سرعان ما تحول إلى قوقعة فارغة لا روح
فيها.
أقامت اتفاقية يالطا نظاما دوليا غير متوازن من حيث مراكز القوة، وقد كرس
ميثاق الأمم المتحدة هذا الاختلال، حين جعل جهازه التنفيذي،
مجلس الأمن، ناديا مغلقا،
ومكّن أعضاءه الخمسة من حق الاعتراض أو الفيتو، ولم يسمح لغيرهم بالدخول إليه حتى الآن،
والأكثر من ذلك صاغ مؤسسوه ميثاقا ضمّنُوه كل ما يكفي من الآليات القانونية
والمؤسساتية والإجرائية، لتبقى غلبة المنتصرين المبدأ العام، والقاعدة الذهبية
الناظمة لأداء المنظمة الأممية وأنشطة أجهزتها الرئيسية والفرعية والمساعدة. كما جاءت
الأجهزة الأخرى مطبوعة بالاختلال من زاوية المهام والاختصاصات، كما هو حال الجمعية
العامة التي تعتبر "برلمانا عالميا"، تمثل فيها كل الدول الأعضاء على
قدم المساواة، وفي الآن معا لا تمتلك سلطة تقريرية، بل تكتفي بإصدار توصيات وتقديم
اقتراحات ليس لها أية قوة إلزامية، حتى في المجالات ذات البعد الاستراتيجي، كما هو
حال حفظ السلم والأمن الدولي، حيث توكل لمجلس الأمن دون سواه الكلمة الفصل، إما
بصريح النصوص الواردة في الفصلين السادس والسابع من الميثاق، أو بناء على
التأويلات التي تعرضت لها هذه الأحكام في الممارسة.
ليست المطالبة بإصلاح الأمم المتحدة موضوعا جديدا، بل هي دعوات قديمة ومتكررة، وقد نالت اهتماما كبيرا ومتزايدا من قبل الدول والمجموعات القارية، والأمناء العامين، والشخصيات الأكاديمية والباحثين، غير أنها ظلت في مجملها عبارة عن دعوات ومناشدات بالإصلاح ليس إلا. أما جوهر ما تضمنته مبادرات الإصلاح، فانصب على الأدوار المتعاظمة لمجلس الأمن، واستحواذ هذا الأخير على كل ما يتعلق بقضية الأمن والسلم، وآليات تدبيرهما، من خلال حق أعضائه في ممارسة الاعتراض أو الفيتو
ليست المطالبة بإصلاح الأمم المتحدة موضوعا جديدا، بل هي دعوات قديمة
ومتكررة، وقد نالت اهتماما كبيرا ومتزايدا من قبل الدول والمجموعات القارية،
والأمناء العامين، والشخصيات الأكاديمية والباحثين، غير أنها ظلت في مجملها عبارة
عن دعوات ومناشدات بالإصلاح ليس إلا. أما جوهر ما تضمنته مبادرات الإصلاح، فانصب على
الأدوار المتعاظمة لمجلس الأمن، واستحواذ هذا الأخير على كل ما يتعلق بقضية الأمن
والسلم، وآليات تدبيرهما، من خلال حق أعضائه في ممارسة الاعتراض أو الفيتو، وعبر التوسع
التدريجي لاختصاصاته على حساب ما للأجهزة الأخرى من إمكانيات مشتركة في هذا
المجال، كما هو حال الجمعية العامة.
فمجلس الأمن، مقارنة مع غيره من أجهزة الدائمة للأمم المتحدة، ظل إما جهازا
لحفظ القضايا باسم النقض، والإبقاء عليها عالقة دون التماس طريقها إلى الحل
النهائي، أو مارس التأويل المفرط لأحكام الميثاق ذات الصلة بمركزه القانوني، فتغولت
مهامه، وتوسعت مجالات تدخله، فأصبح المقرر الوحيد دون غيره. وفي الحالتين معا عمق
هذا الواقع الاختلالات العميقة التي طالت بنية المنظومة الأممية، وعرّض شرعية
استمرارها على ما هي عليه لسيل من التساؤلات النقدية، وأضعف ثقة الدول الأعضاء في أن
تكون الأمم المتحدة فعلا بيت الجميع، وتنظيما دوليا لتمثيل إرادات الدول الأعضاء على
قدم المساواة.
ثمة مبادرات كثيرة ومتنوعة سعت إلى تقديم اقتراحات ملموسة وعملية لإصلاح منظمة
الأمم المتحدة، بعضها قامت دول بعينها بإعدادها والتسويق لها، وأخرى صاغتها تجمعات
إقليمية وقارية، وهناك مشاريع من اقتراح الأمناء العامين للأمم المتحدة، أبرزها
مبادرات كل من "خافيير دي كوييار"، و"كوفي عنان"، و"بان
كي مون"، أيضا المشاريع التي تقدمت بها كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا،
والدول الإسكندنافية، ومجموعة دول عدم الانحياز، وغيرها من الدعوات وهي كثيرة، والتي
سعت في عمومها إلى إصلاح منظومة الأمم المتحدة.
تشترك جل هذه المبادرات في سعيها إلى خلق نوع من التوازن بين أجهزة الأمم
المتحدة، ومنحها قدرا من الفعالية على مستوى التقرير ولتنفيذ والإنجاز. فقد أبانت تجربة
أكثر من ستة عقود من الممارسة الدولية كيف استحوذت الدول دائمة العضوية في مجلس
الأمن على عمليات صنع القرار في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين، كما كشفت عن درجة
الهيمنة التي طالت نشاط مجلس الأمن من قبل هذه القوى، وتحديدا من لدن الولايات
المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي ظلت الجمعية العامة -وهي الجهاز الذي يضم كل دول
العالم الأعضاء في الأمم المتحدة (193) وتتساوى بداخله التمثيلية، حيث يتمتع كل
عضو بصوت واحد أسوة بغيره من الأعضاء- إطارا مفتوحا للمناقشة وإصدار التوصيات غير
الملزمة ليس إلا. لذلك، لم تعد الدعوة إلى إصلاح الأمم المتحدة مجرد أولوية أو
ضرورة حت، بل غدت أمرا لا يتحمل التأجيل ولا الإهمال.
فمن الجوانب الإصلاحية المستعجلة إعادة النظر في عضوية مجلس الأمن، كي يصبح
هذا الجهاز إطارا مفتوحا وليس ناديا مغلقا، كي تستطيع دول العالم، إما فرادى أو
مجموعات، أن تكون ممثلة بداخله. ثم هناك ضرورة قصوى لإعادة النظر في اختصاصات مجلس
الأمن، وفي طبيعة العلاقة التي تربطه بالجمعية العامة، والأمانة العامة، وباقي
الأجهزة الرئيسية الأخرى. أما إذا استمرت الوضعية على ما هي عليه، فإن صورة الأمم
المتحدة ستزداد تقهقرا وتراجعا، وستصاب شرعيتها بالتآكل والضعف التدريجيين.