هل من
السهل أن يفهم المرءُ سرّ جاذبية
ألحان سيد درويش؟
في كتابه
"سيد درويش: حياته وآثار عبقريته" – الصادر أول مرّة ضمن سلسلة
"أعلام العرب" في مصر عام 1955 - يعزو أستاذنا د.محمود الحفني فرادة منجز
سيد درويش اللحنيّ إلى ميله بالتلحين من التطريب بصفته الهدف النهائيّ والغاية
التي طالما سعى إليها الملحّنون قبله، إلى التعبير الصادق عن الكلمات، فهو يُلبس
كلّ جُملة ما يوافقُها من النغم ويجلو معانيها، وهو مناط التفرُّد نفسُه الذي ذهب
إليه العقّاد في مقاله التأبينيّ الشهير لسيد درويش، وأورده الحفنيُّ في كتابه.
وهذا القولُ يذكّرني بذلك التقسيم الذي بسطه الأستاذ محمود كامل في كتابه
"تذوُّق الموسيقى العربية" لأساليب التلحين في موسيقانا، وتحديدا ذلك
التقابُل الذي رسمه بين مدرستين سمّاهما "الزخرفية"
و"التعبيرية"، جعل همّ أولاهما تحقيق الطرب لدى السامع بتغيير مقام
الأغنية وإحداث الانتقالات في درجات رُكوزها والإتيان بالحليات اللحنية والغنائية
المختلفة، وهمّ الثانية "التعبيرية" الإفصاح عن مكنون الكلام المُلحّن
وجلاء معانيه موسيقيّا.
ومع
اعترافي بأنّ هذا التقسيم لا يخلو من صدق، وأنّ من أتوا به أساتذة لا قبل لدخيل مثلي
بمُطاولتهم في هذا المجال، وأنّ التقسيم والتصنيف ضروريّان لكلّ معرفة في أيّ حقل
من حقول النشاط البشريّ؛ وليست الموسيقى بدعا في ذلك، إلا أني أظنُّ الأمر ليس
بهذه البساطة.
ربما
يكون المثال الأوّل الذي يسبق إلى ذهني في هذا المضمار هو لحنا عبده الحامولي
ورياض السنباطي لقصيدة أبي فراس الحمدانيّ الأشهر "أراك عصيّ الدمع".
تربّيتُ على لحن السنباطي كما شدت به أمُّ كلثوم وسُجّل على أشرطة "صوت
القاهرة".
ولم أسمع
لحن الحامولي إلا وأنا أقتربُ من الثلاثين. وحين سمعتُه قلتُ في نفسي: "شتّان
الفارق! أين الثرى من الثريّا؟!" كنتُ أعني أنّ لحن الحامولي تطريبيّ –
بالمعنى الذي قصده أستاذانا الحفني ومحمود كامل – لا يُراعي ما تنطوي عليه القصيدة
التراثية من حراك وأخذ وردّ، فيما جاء لحن السنباطيّ متماهيا تماما مع ما كان
يعتلج في قلب الشاعر ويظهر في قصيدته من لواعج الحُبّ والثورة عليه والاستسلام له.
من منّا سمعه من أمّ كلثوم ولم ينطبع في قلبه ذلك الحوار الموسيقي في مقام الكُرد
بين صاحب الشاعر أو صاحبته التي تسأله عن علاقته بالهوى، والشاعر نفسه في اعترافه
بأنه قد ذاق الشوق ولوعته؛ وتأكيده على عزّة نفسه وتكتُّمه اللذين لا يسمحان له
بإذاعة ما في نفسه على الناس.
لكنني مع
مُضيّ الأعوام انتبهتُ إلى قراءة جدّ محتملة للحن الحاموليّ الهادئ الذي لا
تتعاوره ثورات نفس السنباطيّ الموّارة بالعاطفة. لقد كان المتحاوران في لحن
الحامولي يتحدثان عن خبرة الحُبّ كما لو كانا يصفانها من وراء ستار. إنما لا
يريدان أن يقتربا أكثر من ذلك، ربما تحاشيا لما في الاقتراب من اكتواء بنار
التجربة. هل سمعت يا قارئي العزيز موسيقى التخديريّة أو المُهلوسة Psychedlic Music التي صاحبت صعود تيار تعاطي عقار
إل إس دي LSC في الغرب؟ إننا أمام ظاهرة موسيقية مُشابهة هنا مع لحن الحامولي.
يهبط التنويع الإيقاعيُّ والنغميُّ إلى أخفض مدى ممكن له، ما يبعثُ في المستمع
شعورا بالخدر، وهو ليس خدرا تامّا، فهو يظلُّ واعيا بموضوع الأغنية "خبرات
الحُبّ غير المكافأ" لكنه لا ينغمس فيما يكتنزه هذا الموضوعُ من تقلُّبات
شعوريّة. لكننا قد ننهار تماما أثناء الاستماع إلى لحن الحامولي ونبكي من ذكريات
ذلك الحُبّ، فالخدر قد يُطلق طاقة لاواعية من الذكريات الحزينة التي لا نستطيعُ
كبحها.
وعودا
إلى موسيقار الشّعب بعد هذا الاستطراد الطويل، أقولُ إنّ أول احتكاك لي بموسيقى
الرجل كان من خلال شريط "الوارثين" الذي ضمّ تسع أغان من تراثه تغنّى
بها حفيده إيمان البحر درويش– متّعه اللهُ بالعافية - بتوزيعات موسيقية حديثة في
ثمانينات القرن العشرين. بدت في طفولتي بالغة الجاذبية، فالإيقاع سريع راقص
والكلمات تفيض برُوح الدُّعابة المناسبة لمرحلة تفتُّح وعي طفل بالعالم.
تدريجيّا
اكتشفتُ أنّ مناط فرادة ألحان هذه الأغاني ليس قدرتها على التعبير عن الكلمات على
نحو "منضبط" يُلبسُ الجملة الحزينة تتابُعا نغميّا حزينا، والفرحة
تتابُعا فرحا. وذلك أنّ كلّ جملة كلامية تنطوي على إمكانات تعبيرية أكبر بكثير
ممّا يبدو للوهلة الأولى. ولنأخُذ مثالا بسيطا من واقع إحدى أغاني
"الوارثين"، وهي "الجرسونات":
"زبايننا
مالها .. جرى لها إيه؟/ بقشيش مافيش يا اخواننا ليه؟/ دا التشطيب دا ومنع الخمرة
.. خلّوا عيشتنا جهنّم حمرا/ كان ييجي البون لنا طينة .. نغالطه ونجرّدُه يا أبو
سمرة..إلخ"
هذا هو
الغصن الثالث من الأغنية التي كتب كلماتها "أمين صدقي". يجري السؤالان
في البداية على إيقاع مارش عسكري، وفي تناوُب بين نغمتي (صول) و(دو) في مقام العجم
(دو الكبير)، ما يوحي بأننا نستمع إلى سلام وطنيّ، لا إلى شكوى النُّدُل
(الجرسونات) من ضيق أحوالهم المالية! أليس أول ما يتبادر إلى ذهن أي إنسان حال
تلقّيه هذه الكلمات أنّها جديرة بأن تلبس لحنا حزينا أو ملتاعا؟
وأظنُّ
المتلقّي لو كان عارفا بالموسيقى لاختار مقام الحجاز مثلا لهذين السؤالين، أو
الهُزام، أو الصّبا لو أراد أن تبلُغ اللوعةُ أقصاها. لكنّ العبقرية في لحن سيد
درويش ملتبسة بالغرابة. لقد أراد أن يجري على سنن ساخر في التعبير عن أزمتهم
المالية الطاحنة، وليس ذلك فحسبُ، بل إنه اختار هذا السنن الساخر من بداية
الأغنية، فالمارش العسكري وتناوُب الصول والدُّو موجودان من البداية:
"هنا
سيروبي هنا ارجيله .. هنا كافيه...إلخ"
فمحضُ
ذهاب النادل وإيابه لتقديم طلبات الزبائن وملاحقتها أشبهُ في مخيّلة "سيّد"
بالطابور العسكري. هي صورة ساخرة تماما. يخرج منها إلى لحن العجم – وهو المقامُ
الفرح بطبعه – يُلبسُه لكلمات تعبّر عن تعب (الجرسونات) من مهنتهم "أهي
شغلتنا كده يا افنديّة/ نفضل نحزق بالصفة ديّه/ نهاتي واللي نقوله نعيده/ كأننا
بنقرا ف عدّيّة". ولسانُ حال الموسيقى يقولُ إنهم قد تجاوزوا مرحلة الشكوى من
هذا التعب إلى اعتياده، فكأننا نرى ابتسامة النادل المتكلّفة المصنوعة بادية في
اللحن، فيما كلماتُه تجأرُ إلينا بالشكوى من الأحوال.
وما
يلبثُ المقام أن يخرج من العجم إلى الراست في "واللي نقولُه نعيدُه" وفي
"البون لنا طينة.. نغالطُه ونجرّدُه يا ابو سمرا". في الحقيقة نحن هنا
أمام (جرسون) ينتشي بذكرى احتياله على الزبائن حتى إنه يغنّيها في مقام الراست
الممتلئ نشوة وطربا، فلا نملك أن نتعاطف معه التعاطُف كُلّه، وإنما تبقى مشاعرنا
معلّقة بين التعاطُف والإدانة، فنحن نتفهّم شظف عيشه وضيق ذات يده، لكننا في الوقت
ذاته مُدركون أنه محتال أثيم!
هل نبالغ
أو نقفز قفزة لا منطقيّة إن قُلنا إنّ نشأة "سيّد" الدينية وراء هذا
الشُّعور المعقّد إزاء طائفة (الجرسونات)؟ لقد شبّ على قيم محافظة، لكنّ عشقه
للموسيقى تقلّب به في أعطاف حياة المُجون، وخلالها لمس مصاعب حياة طوائف الشعب كلّها،
فلا عجب أن تجيء موسيقاهُ معقّدة في بساطتها هكذا إن جاز التعبير.
لنأخذ
مثالا آخر من أغنية "الوارثين" أو "ع النسوان يا سلام سلّم"
التي غنّاها "إيمان" فاستبدل بمفردة "النسوان" كلمة
"الستّات" لأنّ المفردة المتروكة اكتسبت درجة من الإدانة المجتمعية في
مصر.
"نعرف
جغرافيا ونحوي. وحساب وحاجات ترلّلي/ خمسة ف تسعة بستّاشر .. وباريس في الوجه القبلي
بُنجورنو
فعل مضارع. مفتوح ع البحري تملّي/ ودي صنعة هنري التاسع .. شيخ حارة في المتولّي
أبجد
هوّز معناها/ بالتركي ابقى قابلني!"
أتى لحنُ
"سيد" للسطر الأول في مقام النهاوند على إيقاع الملفوف السريع. والحقُّ
أنّ غرابة الكلمات – التي تنتظم في سياق المسرحية الغنائية التي قُدّمت ضمنها –
مُغرية بتجريب أيّ مقام لها. لكنّ بصيرة "سيد" أرادت أن يكون مقام
النهاوند بما يوحي به من تأمُّل هو المعبّر عن هذه الكلمات، فكأنّ
"الستّات" هنا يتأملن معارفهنّ الملتبسة التي يعتقدن أنها مضبوطة، وهنّ
في الوقت ذاته لا يملكن كثير وقت لهذا التأمل، ولذا جاء الإيقاع الملفوف السريع.
ثم فجأة ينتقل المقام إلى الراست والإيقاع إلى المقسوم مع "بُنجورنو فعل
مضارع"، لتتحول الحالة إلى طرب راقص، حيث التباسُ المعرفة لا يترك متّسعا إلا
للرقص، والنشوة بمجرّد الوجود هي الغالبة، ثم لا يلبث اللحن أن يعود إلى النهاوند
وإيقاع الملفوف مع "أبجد هوّز...".
والخلاصة
أنّ أمامنا حلّين لمشكلة سرّ جاذبية ألحان سيد. فإما أنّ الكلمات تنطوي على
إمكانات تعبيرية متعددة، وهو قد اختار إمكانا منها يخلقُها خلقا آخر ويعطيها حياة
جديدة حال غنائها، وإمّا أنّه أدرك ما يغيبُ عن معظمنا حين يقرؤون مثل هذه
الكلمات، أدرك ما تكتنزُه من موقف وجوديّ ومجتمعيّ وقيميّ معقّد، فجاءت موسيقاه
معبّرة عن هذا التعقيد رغم ما يبدو لنا للوهلة الأولى من بساطتها. وفي الحالين ليست
المسألةُ "تعبيرا مضبوطا" بالقلم والمسطرة على مقاس الكلمات، ففرادةُ
ألحان "سيد" تنبُع من تعدُّد روافد ثقافته، ورهافة شعوره التي بلغت درجة
فريدة مكّنته من سبر أغوار الكلمات الجامدة على بياض الورق، حتى أصبح ما قدّمه من
ألحان سحرا متجددا، إن لم يتماسّ كلُّه مع إنسانيتنا في كلّ حين، فهو على الأقلّ
يصوّر لنا عالمه كما عاشه هو وكما عاشه أسلافُنا منذ قرن من الزمان.