لم تعد أخبار وأنشطة وعمليات تنظيم "الدولة الإسلامية" على
سعتها وانتشارها تجذب اهتمام
العالم، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من
تتحكم في تحديد الأولويات والتحديات والمخاطر الجيوسياسية الكونية، فعقب انهيار
الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية وجدت الولايات المتحدة ضالتها
باختراع عدو غير مرئي أطلقت عليه "الإرهاب الإسلامي"، وبعد هجمات الحادي
عشر من أيلول/ سبتمبر أصبح مفهوم الحرب
الأبدية على "الإرهاب" استراتيجية راسخة وأداة ثابتة لشن حروب الهيمنة
والسيطرة، ورغم أن معظم حالات ما يسمى "الإرهاب" هو مسألة عنف سياسي
محلي، تجاهلت الولايات المتحدة الأسباب الجذرية للعنف والتي كانت هي أحد أكبر
صنّاعة.
في ذروة حروب الهيمنة الأمريكية تحت ذريعة حرب الإرهاب كانت أي حادثة
عنف عادية وتافهة في مكان بعيد تجتذب اهتمام الإعلام الأمريكي المرتبط بأجندة
المجمع الصناعي العسكري، وتحظى بتغطية لا نظير لها، ومع تبدّل الأولويات
الاستراتيجية حول تعريف المصالح الحيوية، وزيادة وتنوع
المخاطر التي تهدد مكانة
الولايات المتحدة المستقبلية تحوّل "الإرهاب" إلى مصاف التهديدات
الثانوية، رغم أن ما يسمى "الإرهاب" أصبح أكثر انتشارًا وتنوعًا
وتعقيدًا، فقد برزت تحديات أخرى في وجه الولايات المتحدة إلى جانب الإرهاب، تشكل
تهديداً لمكانة أمريكا العالمية، وتتكون
هذه التهديدات من مجموعة متنوعة داخلية وخارجية، ومن أهمها تنامي قوة الدول
المنافسة كالصين وروسيا إلى تحدي الدول المارقة كإيران وكوريا الشمالية، ومن توسع
الحروب التقليدية إلى مكافحة الانتشار النووي، ومخاطر التغير المناخي، والجائحة
العالمية والهجمات الإلكترونية اليومية التي تطمس الفروق بين الدول والعصابات
الإجرامية، وقد شكل عام 2021 نقطة تحول في كل من الإرهاب المحلي والدولي، حيث شهد
الهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي من جماعات يمينية وفاشية، والنهاية الفوضوية
لأطول حرب أمريكية في أفغانستان، إذ تعرضت حملة مكافحة الإرهاب الأمريكية لضربة
مزدوجة مدمرة في عام واحد، وكلا الحدثين يشيران إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى
مستقبل أكثر قتامة وأكثر غموضا في مجال مكافحة الإرهاب.
أحد مظاهر تبدّل الأولويات الأمريكية تجاه "الإرهاب" هو
تجاهل إعلان تنظيم "الدولة الإسلامية" تعيين زعيم جديد وتأكيد مقتل
الزعيم السابق، حيث أعلن المتحدث الرسمي الجديد باسم تنظيم "الدولة
الإسلامية"، أبو حذيفة الأنصاري، في كلمة صوتية مسجلة بثتها مؤسسة الفرقان
الإعلامية التابعة له، في الثالث من آب/ أغسطس الماضي، عن مقتل أبو الحسين القرشي،
وقد كشف المتحدث الرسمي تفاصيل مقتل أبي
الحسين القرشي، وذلك بهدف "فضح المسرحية التركية الكاذبة، التي نشروها في
الإعلام خلافا لما جرى"، حسب تعبير الناطق، وقال إن أبو الحسين القرشي قتل
خلال مواجهة مع ما سماها "هيئة الردة والعمالة" (هيئة تحرير الشام) في
إحدى بلدات ريف إدلب (جنديريس التابعة لمنطقة عفرين) "إثر محاولة أسره،
فاشتبك معهم بسلاحه حتى قُتل متأثراً بجراحه"، ولم يحدد التسجيل وقت مقتله،
لكنه أعلن عن هوية الشخص الذي اختاره التنظيم كزعيم جديد له وهو أبو حفص الهاشمي
القرشي، مشيراً إلى أن عناصر "هيئة تحرير الشام" اعتقلوا أيضاً المتحدث السابق
باسم التنظيم أبو عمر المهاجر مع مجموعة أخرى من عناصر التنظيم، واصفا هيئة تحرير
الشام بأنها "أذناب وجواسيس المخابرات التركية".
إذا كان التجاهل الأمريكي لمخاطر الإرهاب يمكن فهمه في سياق تغيّر الأولويات الاستراتيجية الأمريكية، فإن التجاهل العربي هو أشد غرابة، ذلك أن مخاطر العنف السياسي ومسرح العمليات الجهادية يقع داخل جغرافيتها، وهي تتوافر على كافة الأسباب والشروط الكافية لعودة تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الحركات الجهادية، وتبدو الحالة الإعلامية العربية في حالة غياب وهي تتبع الاستراتيجية الأمريكية بحذافيرها دون تدبر
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن مطلع أيار/ مايو الماضي
مقتل زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" خلال عملية نفذتها الاستخبارات
التركية في سورية، ووفق الرواية التركية التي أوردتها وكالة "رويترز"
على لسان مسؤول أمني تركي كبير في 2 مايو الماضي، فإن زعيم التنظيم أبو الحسين
القرشي قُتل عندما فجر سترة ناسفة خلال غارة للقوات الخاصة التركية بعد رفضه
الاستسلام، وقد تجاهلت الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك الإعلان التركي، ليس بسبب
تبدل الأولويات الأمريكية فحسب، بل لأنها لا ترغب بمنح تركيا أي ميزة إيجابية في
حرب الإرهاب، فقد روجت الولايات المتحدة على مدى سنوات أن تركيا دولة ميسرة
للإرهاب، وتحالفت مع عدو تركيا اللدود حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري الشريك
المفضل في الحرب على الإرهاب على الساحة السورية تحت مسمى قوات سوريا الديمقراطية،
ولا جدال أن الولايات المتحدة لا تريد أن تعطي أي مصداقية لتركيا ولا هيئة تحرير
الشام في ملف حرب الإرهاب، ورغم أن تنظيم "الدولة الإسلامية" قدم رواية
منطقية ومتماسكة حول مقتل زعيمه، لكن
المتحدث باسم التنظيم اتهم هيئة تحرير الشام التي يعتبرها من أبرز خصومه ويرى أنها
تعمل لحساب أنقرة، بمقتل زعيمه. وقال إنها سلمت جثته إلى الحكومة التركية، لكن
الرواية لا تلغي الدور التركي، فثمة تعاون
وثيق بين "هيئة تحرير الشام" والاستخبارات التركي، ومن المرجح أن عملية
قتل القرشي تمت بالتعاون بين تركيا والهيئة.
لا يغير مقتل زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" أبو الحسين
القرشي من صورة المشهد الجهادي العالمي،
فقد قتل زعيم وبقي التنظيم، وسرعان ما تم تعيين قائد آخر، إذ لا يعدو مقتل
"القرشي" عن كونه نجاحاً تكتيكياً ورمزياً، فتنظيم "الدولة"
لن يتأثر على الصعيد العملياتي والاستراتيجي، وهو ما يؤكد فشل تكتيكات "قطع
الرؤوس"، فالمنظمات التي تتمتع بهياكل بيروقراطية راسخة، وإيديولوجية جاذبة،
وتمويلات كافية، وتتمتع بالمرونة قادرة على التكيّف، وسوف يواصل القائد الجديد
لتنظيم "الدولة" نهجه على خطى أسلافه، وتشير الحقائق التاريخية إلى أن
تنظيم "الدولة الإسلامية" من أكثر التنظيمات الجهادية تطوراً على صعيد
تماسك الهيكلية التنظيمية والصلابة الإيديولوجية، فقد شكّل التنظيم طفرة في تطور
نشاط الجماعات "الجهادية" العالمية، وبدت هيكليته وإيديولوجيته مبتكرة
في العديد من خصائصها واستراتيجياتها، فرغم طرد تنظيم "الدولة" من مناطق
سيطرته الحضرية المدينية في العراق وسوريا، فإن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرات
قتالية وتمويلية وإعلامية جيدة، فقد كشفت الوقائع الميدانية عن سرعة تكيّف التنظيم
مع التطورات الميدانية، وتمتعه بمرونة شديدة بالتحول من نهج المركزية إلى حالة
اللامركزية، حيث تمكن من إجراء إعادة هيكلة تنظيمية على الصعيد العسكري والأمني
والإداري والشرعي والإعلامي، فمع نهاية المشروع السياسي للتنظيم كدولة
"خلافة"، عاد إلى حالة "المنظمة"، ورجع إلى الاعتماد على
تكتيكاته القتالية التقليدية بالاعتماد على نهج الاستنزاف وحرب العصابات.
إن نظرة خاطفة على مسارات تشكل تنظيم "الدولة الإسلامية"،
تؤكد على وجود منظمة بيروقراطية شديدة التعقيد ومتماسكة ومرنة، وتتمتع بقدرة كبيرة
على التطور والتكيّف، وتشير عملية الانتقال الأخيرة لقيادة جديدة، إلى أحد مناحي
التطور، فعندما قتل الزرقاوي (أحمد فضيل الخلايلة) في 6 حزيران/ يونيو 2006، ترك لخلفائه منظمة
متماسكة وقوية ونافذة، وقد تولى أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي) وهو ضابط
سابق في الجيش العراقي المنحل تأسيس "دولة العراق الإسلامية" في 15
تشرين الثاني/ نوفمبر 2006، وفي عهده تحول التنظيم إلى منظمة بيروقراطية أكثر
مركزية، وعندما أعلن عن مقتل أبو عمر البغدادي في 19 نيسان/ أبريل 2010، إلى جانب
أبي حمزه المهاجر، بادر تنظيم دولة العراق الإسلامية في 16 أيار/ مايو 2010، إلى
بيعة أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد البدري السامرائي)، وعقب مقتل أبو بكر
البغدادي في 26 تشرين أول/ أكتوبر 2019، سارع التنظيم إلى تعيين أبو إبراهيم
الهاشمي القرشي (أمير محمد سعيد عبد الرحمن مولى)، وعقب مقتله في شباط/ فبراير
2022، أعلن التنظيم في 10 آذار/ مارس 2022، تنصيب أبو الحسن الهاشمي القرشي، وبعد مقتل الهاشمي في منتصف تشرين الأول/
أكتوبر 2022، تولى أبو الحسين الحسيني القرشي زعامة التنظيم في تشرين الثاني/
نوفمبر 2022 .
تشير حصيلة حرب الإرهاب بعد أكثر من عشرين عاماً، بصورة جلية إلى أن
الاستراتيجية العسكرية التي ما تزال الولايات المتحدة تنتهجها لخفض تهديد الإرهاب
لم تفشل وحسب؛ بل إنها جعلت الأمور أسوأ على الأرجح، فالولايات المتحدة لم تحرز
تقدمًا يُذكر نحو ضمان سلامة أمريكا على المدى الطويل من الإرهاب العالمي، فقد
وجدت أمريكا نفسها تعود مرة أخرى إلى نقطة البداية مع عودة سيطرة طالبان على
أفغانستان وتوفير ملاذ آمن للقاعدة، وأدت حرب الإرهاب الأمريكية إلى بروز نهج
جهادي عالمي أكثر خطورة مع تنظيم "الدولة"، وأصبحت الجهادية العالمية
شبكة عالمية ممتدة وأكثر خطورة ليس من أولوياتها النكاية ومهاجمة أمريكا والغرب،
وإنما باتت أولوياتها تتمثل بالسيطرة المكانية والتمكين وإقامة خلافة محلية.
يجب الالتفات إلى أن إلحاق هزيمة نهائية بالحركة الجهادية غير واقعي
ولا يمكن، فلا زالت الجهادية العالمية تتمتع بجاذبية كافية، إذ لا يتعلق الأمر
بمقاربة عسكرية لمجموعات تعمل خارج سياقات الدولة والمجتمع، إذ تستند الجهادية إلى
أسباب جذرية عميقة سياسية واقتصادية واجتماعية، وهي تأخذ أبعاداً متغيرة ومرنة،
وتتمتع بالقدرة على التكيّف مع التحولات، وبعد أن كانت القاعدة تنظيماً نخبوياً
طليعياً مركزياً في أفغانستان، أصبحت الآن أكثر انتشاراً، وباتت تتنافس فيما بينها
على النفوذ والسيطرة، وأصبحت أشد خطورة بعد انقسامها إلى ثلاث مدارس جهادية، حيث
شهدت الجهادية العالمية انشطاراً وانقساماً، عقب ثورات الربيع العربي، إلى ثلاث
مدارس رئيسة؛ الأول: يتمسك بأجندة القاعدة التقليدية، والتي تنص أولويّاته على
أولوية قتال العدو البعيد ممثلاً بالغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، باعتبارها
حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية
"إسرائيل"، وتبنت نهجاً قتالياً واستراتيجياً بقوم على تنفيذ عمليات
قتالية انتقامية تستند إلى مفهوم جهاد
"النكاية"، من خلال طليعة مهمتها الوصول إلى خلق حالة إسلامية تصل إلى
جهاد الأمة، والثاني يقوده الفرع العراقي المعروف بــ "الدولة
الإسلامية" بزعامة وترتكز أجندته على أولوية مواجهة العدو القريب، في إطار
عقيدة شمولية تقوم على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والدولية، والجمع
بين أنماط وأساليب الجهاد المختلفة، وفي مقدمتها، جهاد "التمكين" من
خلال فرض السيطرة المكانية على الأرض، وفرض حكامتة وتطبيق الشريعة، وإعلان
الخلافة، والثالث يتشكل من مجموعات جهادية
تتبنى مواقف محلية أقرب إلى الفرع السوري المنشق عن القاعدة بقيادة هيئة تحرير
الشام ــ جبهة النصرة سابقاً، وهي قريبة
من نهج حركة طالبان في أفغانستان حيث سعت الهيئة للتخلص من إرث القاعدة والدولة باعتبارها تتوافر على أجندة متشددة على
الصعيدين الإيديولوجي والاستراتيجي، وشرعت بتقديم نفسها كمجموعة جهادية محلية دون
أي أجندة جهادية عالمية.
إن التجاهل الأمريكي لما أطلقت علية الحرب على الإرهاب، هو نتيجة
بروز تحديات جيوسياسية أخرى، إذ لم يعد الشعب الأمريكي ينظر إلى تنظيم
"الدولة الإسلامية" كتهديد وخطر، وتراجعت التغطية الإعلامية، وحلت مكانها مخاطر وتهديدات أخرى، ففي عام 2017 وجد استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو
للأبحاث أن ما يقرب من ثلثي الأمريكيين يرون أن "داعش" هو أكبر تهديد
يواجه الأمن القومي، متجاوزا بذلك التغير المناخي والصين وروسيا، وفي استطلاع آخر
أجرته مؤسسة بيو للأبحاث عام 2017 شمل 10 دول في الاتحاد الأوروبي كشف أن نحو 79
في المائة من الأوروبيين الذين شملهم الاستطلاع كانوا قلقين بشأن
التطرف الإسلامي،
وبعد صدور استراتيجية الأمن القومي عام 2018 وتبدل الأولويات بالتركيز على الصين
وروسيا ومخاطر أخرى تراجع ملف الإرهاب.
عندما خسر تنظيم "الدولة الإسلامية" جميع الأراضي التي كان
يسيطر عليها في العراق وسوريا عام 2019، بدأ يفقد اهتمام الجمهور في الغرب والذي
أخذ يولي اهتمامه لمخاطر أخرى، حيث وجد مركز بيو للأبحاث أن الأمريكيين كانوا
قلقين بشأن "داعش" بنسبة 12 في المائة أقل مما كان عليه في عام 2017،
وكان نحو 68 في المائة من الأوروبيين الذين شملهم الاستطلاع قلقين بشأن الجماعة / التطرف
الإسلامي ـ أقل بنسبة 11 في المائة مما كان عليه في عام 2017، وفي تناقض صارخ مع
استطلاعات
الرأي التي أجريت قبل خمس سنوات، وجدت دراسة أجرتها مؤسسة غالوب عام
2022 أن الإرهاب الجهادي/تنظيم "داعش" فشل في الوصول حتى إلى أهم 14
قضية، يراها الأمريكيون تؤثر على البلاد. ويمكن أيضاً العثور على اتجاه عام
لانخفاض الاهتمام الغربي التدريجي بالمجموعة في بيانات بحث غوغل، ووفقاً لإحصاءات
من مؤشرات غوغل، بلغ الاهتمام الأمريكي بتنظيم الدولة ذروته في عام 2015 وحوله.
وبعد ذلك بوقت قصير، انخفض اهتمام الأمريكيين بالمجموعة بشكل كبير وظل ثابتاً،
وكان "الإرهاب" ممثلاً بشكل مفرط في وسائل الإعلام الغربية بنحو 4,000
مرة في عام 2016. علاوة على ذلك، وجدت دراسة أجريت عام 2019 أن وسائل الإعلام
الرئيسية مثل CNN غطت الإرهاب بنسبة 758 في المائة أكثر
عندما كان الجاني مسلماً.
إن تجاهل أخبار وأنشطة وعمليات تنظيم "الدولة الإسلامية" على سعتها وانتشارها لا يعني نهاية التنظيم، فرغم تراجعه في العراق وسوريا وسيناء لا يزال التنظيم يشن هجمات ويحتفظ بقدرة مثبتة على تنفيذ عمليات مميتة، وهو يتنامى بصورة واضحة في إفريقيا وجنوب آسيا
إذا كان التجاهل الأمريكي لمخاطر الإرهاب يمكن فهمه في سياق تغيّر
الأولويات الاستراتيجية الأمريكية، فإن التجاهل العربي هو أشد غرابة، ذلك أن مخاطر
العنف السياسي ومسرح العمليات الجهادية يقع داخل جغرافيتها، وهي تتوافر على كافة
الأسباب والشروط الكافية لعودة تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الحركات الجهادية،
وتبدو الحالة الإعلامية العربية في حالة غياب وهي تتبع الاستراتيجية الأمريكية
بحذافيرها دون تدبر، فإذا كانت قد تراجعت التغطية الأمريكية لملف الإرهاب، فإن
الإعلام العربي لا يكاد يشير إلى تطورات الحالة الجهادية، ويبدو منشغلاً
بالاهتمامات الأمريكية بالحرب الروسية الأوكرانية والتنافس الأمريكي مع الصين،
وكأن الإعلام العربي بات أحد الأجهزة الدعائية الإعلامية لحلف شمال الأطلسي
(الناتو)، إذ يمكن فهم سلوك الحكومات الغربية بالاهتمام بالحهادية العالمية عندما تتوسع خارج الشرق الأوسط، لكن الحكومات
العربية لا تدرك أن أولويات الجهادية أصبحت في المنطقة، وانتشرت فروع تنظيم الدولة
الإسلامية في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وقد
ثبت أن احتواء تنظيم "الدولة الإسلامية" صعب في سوريا وأفغانستان، وعلى
الرغم من الانخفاض العام في وتيرة الهجمات، لا يزال التنظيم يشن هجمات متعددة
شهرياً في العراق وسوريا وسيناء، كما أن فروع التنظيم في أفريقيا وأجزاء من آسيا
نشطة بشكل متزايد.
خلاصة القول إن تجاهل أخبار وأنشطة وعمليات تنظيم "الدولة
الإسلامية" على سعتها وانتشارها لا يعني نهاية التنظيم، فرغم تراجعه في
العراق وسوريا وسيناء لا يزال التنظيم يشن
هجمات ويحتفظ بقدرة مثبتة على تنفيذ عمليات مميتة، وهو يتنامى بصورة واضحة في
إفريقيا وجنوب آسيا، ويشير تجاهل الولايات المتحدة الأمريكية إلى أنشطة تنظيم
الدولة رغم إصراره على الحفاظ على التحالف الدولي ضد داعش المكون من 83 دولة والاعتراف
بعدم الحاق هزيمة نهائية بالتنظيم، إلى تبدل الأولويات الاستراتيجية الأمريكية
تجاه قضايا أخرة كالتنافس مع الصين وروسيا، فضلاً عن ملف الإرهاب الداخلي، فقد
تبدلت الأولويات الأمريكية من حرب الإرهاب إلى التنافس والحروب والصراعات بين
الدول.
ففي حقبة ما بعد الحرب الباردة شكلت سياسة الحرب على الإرهاب حجر
الأساس في عقيدة الأمن القومي الأمريكي للتوسع والهيمنة في إطار نظام قطبي أحادي،
ورغم ذلك تنامت الجهادية العالمية وباتت أكثر خطورة وأوسع انتشاراً، وفي ظل عودة
التنافس بين الدول كمحدد للصراعات الجيوسياسية تراجعت أهمية الحرب على الإرهاب،
لكن الغريب في الأمر هو أن الحكومات العربية تتبع الأجندة الأمريكية دون أدنى
اعتبار وكأن ما يسمى "الإرهاب" لم يعد له وجود ولا يشكل أي تهديد، رغم
أن الجهادية العربية متجذرة داخل بنية النظام الاستبدادي المزمن، ومع استمرار حالة
الفشل العربي سياسياً واقتصادياً واجتماعياَ وثقافياً، فإن العنف هو سيد الأحكام،
في دورة لا تنتهي، وإذا كان التجاهل الأمريكي لملف الإرهاب ينطوي على تبدل
الأولويات، فإن التجاهل العربي هو برهان
على حالة الفشل والتبعية دون عقل.