رغم إقدام تحالف
نتنياهو على إقرار التشريع الأول في
التعديلات القضائية، التي أجّجت موجة احتجاج غير مألوفة ضده وحكومته في إسرائيل، وعلى الرغم من رفض إدارة الرئيس بايدن المعلنة لتوجه هذه الحكومة اليمينية بإجراء تلك التعديلات القضائية، إلا أن تطور الأحداث الحالية يؤكد عدم نية ورغبة وقدرة واشنطن على مقاطعة أو ردع حكومة نتنياهو أو أي حكومة قادمة في إسرائيل، في ظل اعتبارات إستراتيجية حساسة تحكم علاقة واشنطن بـإسرائيل عموماً، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص، في هذه الحقبة الزمنية. وكانت واشنطن قد هددت إسرائيل في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، في عهد جورج بوش الأب، بقطع المساعدات عنها، لإجبارها على الدخول في مفاوضات مدريد ووقف الاستيطان، وخضع شامير للضغوط الأميركية في حينه، فواشنطن تمتلك من أدوات القوة ما يمكّنها من ردع سياسات إسرائيل إن رغبت.
تتكون حكومة نتنياهو الحالية السادسة من متدينين متشددين وقوميين متطرفين، من أتباع التيارات الدينية والمستوطنين، والبعيدة عن النخب السياسية المألوفة من سياسيين واقتصاديين وعسكريين. واعتبر المفكر الإسرائيلي، يوفال نوح هراري، أن حكومة نتنياهو ستحوّل إسرائيل "إلى أكبر دولة معادية للسامية في العالم"، وستنتج "منظومة ديكتاتورية" من الصعب التعايش معها، على حد تعبيره. ويطرح ائتلاف نتنياهو منذ توليه الحكم مطلع العام الجاري خطة لإصلاح القضاء، قام بتأجيل إقرارها من الكنيست، بعد انفجار الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي بعد الإعلان عنها. إلا أن الائتلاف الحاكم قام، الأسبوع الماضي، في الكنيست، وقبل دخوله في عطلته الصيفية، بإقرار إلغاء "حجة المعقولية"، التي تقيّد صراحة من صلاحيات القضاء في إبطال تشريعات صادرة عن الكنيست أو رفض قرارات للحكومة، تتناقض مع روح القانون، مثل تعيين موظفين متهمين بالفساد، الأمر الذي أجّج حدة التظاهرات ووسّع رقعة انتشارها وتصادمها مع الشرطة. واستعارت إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي بند المعقولية من التشريع البريطاني، والذي يسمح للمحكمة العليا بإلغاء تشريعات أو قرارات صدرت عن الهيئة التشريعية.
هذه التطورات التي ترتبت على سياسة الحكومة أدت لعدم الاستقرار السياسي والأمني في إسرائيل وعدم اليقين الاقتصادي. فأعلن رجال أعمال واقتصاديون وسياسيون وأكاديميون وأطباء ورجال أمن إسرائيليون الإضراب، وصرح جنود الاحتياط بأنهم سيتوقفون عن التطوع للخدمة، ووصلت حدة الاحتجاجات بالدعوات لعصيان مدني وعدم دفع الضرائب ورفض الخدمة. وشارك موظفو شركات التكنولوجيا الفائقة وروّاد الأعمال بدور نشط في الاحتجاجات، وأعلن بعضهم نيتهم إخراج نشاطهم التجاري من البلاد. وفقد الائتلاف الحكومي حوالى ٢٠ في المائة من مكانته الشعبية في استطلاعات الرأي الأخيرة، وأعلن آلاف الجنود في الاحتياط عدم مثولهم للأوامر، وخروج آخرين من الخدمة الميدانية الجوية وأجهزة المخابرات السايبر، وربط محافظ بنك إسرائيل ضعف الشيكل في سوق العملات الأجنبية الدولي بالأحداث الداخلية في إسرائيل.
وتشير استطلاعات رأي إلى أن ثلث الإسرائيليين باتوا يفكرون بالهجرة ونصفهم قلق من حرب أهلية واضطراب في الأوضاع الأمنية الاقتصادية. وأعلن يائير لابيد زعيم المعارضة نيته التوجه لمحكمة العدل العليا للمطالبة بإلغاء القرار الأخير من قبل الكنيست. وطالبت المسيرات والتظاهرات لأول مرة واشنطن بقطع مساعداتها عن إسرائيل، في تطور يعد نوعياً، وفي رسالة لواشنطن تدعوها للتدخل لإرغام الحكومة على التراجع، في ظل عدم نجاح التحرك الشعبي في ذلك حتى الآن.
اعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن، هذه الحكومة الإسرائيلية "الأكثر تطرفاً في تاريخ حكومات إسرائيل"، وأن نتنياهو بات يشكل خطراً على إسرائيل، وأن بعض الوزراء في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحاكم جزء من المشكلة. وتستاء الإدارة الأميركية الحالية صراحة من سياسات الحكومة الإسرائيلية القائمة بقيادة نتنياهو، وعلى رأسها تلك المتعلقة بالإصلاح القضائي وكذلك الاستيطان. على خلفية هذه التطورات، طالب مارتن إنديك ودان كيرتزر، وهما سفيران سابقان للولايات المتحدة في إسرائيل، ويهوديان، بلادهما بإعادة النظر في تقديم المساعدة العسكرية لإسرائيل، حيث اعتبر كيرتزر أن هذه المساعدات لا تعطي نفوذاً لواشنطن لدى إسرائيل. كما طالب كاتب العمود الأميركي في صحيفة "نيويورك تايمز"، نيكولاس كريستوف، بلاده بالأمر نفسه الأسبوع الماضي. وبرز استياء واضح من مشرعين ديمقراطيين وقيادات يهودية أميركية من سياسات حكومة نتنياهو، فيما يتعلق بالإصلاحات القضائية.
ورغم تصريحات بايدن وإدارته تجاه نتنياهو وحكومته، إلا أنه منذ شهر كانون الأول الماضي، تعاملت إدارة بايدن مع حكومة نتنياهو وفق سياسة مدروسة، تقوم فيها بمواصلة التزاماتها وتعاملاتها معها، وفي جميع المجالات، مع اتخاذ مواقف إعلامية وتصريحية صريحة وعلنية. كما قام بايدن، قبيل زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى واشنطن، بإجراء اتصال مع نتنياهو يمهد فيه للقاء محتمل بينهما، وأكد أنه صديق مدى الحياة لإسرائيل، وبعد إقرار التشريع، واصل تأكيده أن حبه لإسرائيل "عميق الجذور وطويل الأمد". كما أجرت القيادة المركزية الأميركية أكبر مناورة مشتركة مع إسرائيل في المنطقة، أرسلت من خلالها رسالة أكدت فيها عملياً واشنطن التزامها بالأمن في الشرق الأوسط، واعتمادها على إسرائيل في المقام الأول.
ليس هناك شك في تحالف وشراكة أميركا لإسرائيل كقاعدة عامة، إلا أن تلك الشراكة وذلك التحالف بات مضاعفاً في ظل التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وظهور الصين كلاعب قوي وتحالفه المتعدد الأبعاد من أقطاب المنطقة، خصوصاً مع تطورات نتائج الحرب الروسية الأوكرانية. ويبدو أن إسرائيل تعلم تماماً قيمتها الحقيقية لدى واشنطن، رغم حاجتها البنيوية لدعمها.
دليل آخر على المقاربة سابقة الذكر، اعتبر بايدن، الجمعة الماضي، أن اتفاقاً قد يكون في الطريق بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، في ظل مساعٍ تبذلها إدارته لتطبيع العلاقات بين البلدين. وكان مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، ومبعوث الشرق الأوسط بريت ماكغورك، في جدة قبل أيام لمناقشة إمكانية التوصل لمثل هذا الاتفاق. وأشار سوليفان إلى أن
الولايات المتحدة لديها مصلحة في إحراز التطبيع بين إسرائيل والمملكة، وتعمل على تحقيق ذلك. في الشهر الماضي أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بعد زيارته للسعودية أن الإدارة منخرطة في محاولة إحراز تقدم على طول القناة الإسرائيلية السعودية، وفي الشهر الذي سبقه عينت الإدارة الأميركية دان شابيرو، سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل، مستشاراً خاصاً للتكامل الإقليمي. ويحلم نتنياهو بإنجاز اتفاق تطبيع مع المملكة، فأعلن في أول اجتماع للحكومة رغبته بتحقيق ذلك الهدف، معتبراً أنه سيعدّ إنجازاً مهماً في حل الصراع العربي الإسرائيلي. تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع المملكة يعدّ مقدمة لتطبيع العلاقات مع دول عربية وإسلامية عديدة، في ظل المكانة الخاصة التي تمتلكها دينياً وسياسياً، واقتصادياً أيضاً كأكبر اقتصاد في الشرق الأوسط.
ورغم تطلع المملكة لتحقيق مكاسب من واشنطن، والتي طالما اعتبرت إسرائيل مفتاحاً مهماً من مفاتيحها، كتطوير برنامجها النووي السلمي، والحصول على أسلحة أميركية نوعية، ورغم وجود تغير تدريجي في سياساتها مع إسرائيل، كالسماح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق فوق المملكة وإمكانية السماح للحجاج الفلسطينيين للوصول من إسرائيل، إلا أن ذلك لن يمر دون الفلسطينيين، وهو ما تؤكده التصريحات السعودية. فأكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في خطاب ألقاه بقمة جامعة الدول العربية خلال العام الجاري، أن "القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمالنا". كما شدّد وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير، العام الماضي، أن السلام يأتي في نهاية العملية وليس في بدايتها".
(عن صحيفة الأيام الفلسطينية)