يظل
إخراج دول
آسيا الوسطى من مدار
روسيا أحد الأهداف الرئيسية للدبلوماسية الأمريكية،
لكن الحس السليم يفرض أنه بما أن روسيا تنتهج سياسة ودية تجاه آسيا الوسطى، فلا
يوجد سبب يدعو دول المنطقة إلى إفساد العلاقات معها، فالعلاقات السياسية
والاقتصادية والإنسانية والتفاعل الأمني بين روسيا وآسيا الوسطى ليست متشابكة بشكل
وثيق فحسب؛ بل إنها أيضا مهمة للغاية لدول المنطقة، والتي تعد أساسا مستقرا طويل
الأجل.
ونشر
موقع "
منتدى فالداي" الروسي مقالًا، ترجمته "عربي21"، للكاتب
تشاو هوا شنغ، الأستاذ في معهد الدراسات الدولية لجامعة فودان بشنغهاي؛ وعضو نادي
بكين الدولي للحوار، قال فيه إنه نظرا لموقعها الجغرافي والجيوسياسي الفريد، كانت
آسيا الوسطى دائما مفترق طرق لمصالح القوى العظمى؛ حيث تنشط جميع القوى الكبرى في
آسيا الوسطى، بما في ذلك الصين وروسيا والولايات المتحدة وأوروبا والهند واليابان.
وأوضح
الكاتب أن هذا النشاط الدولي لن يكون مشكلة لبلدان آسيا الوسطى إذا كانت القوى
الكبرى على علاقة جيدة مع بعضها البعض، لكن الحقيقة هي أن العلاقة بينهم معقدة
وغالبا ما يتم تفسيرها على أنها منافسة جيوسياسية، وخاصة في ما يرتبط بالعلاقات
الأمريكية الروسية في المنطقة.
وبين
الكاتب أن هذا لا ينطبق على العلاقات بين الصين وروسيا؛ حيث يتعاون البلدان في
آسيا الوسطى في القضايا الأمنية والاقتصادية منذ عام 1998. وعلى الرغم من وجود بعض
المنافسة بينهما - بطبيعة الحال - فإن السمة الرئيسية لعلاقتهما هي التعاون
الاستراتيجي، الذي ظهر بشكل أساسي في تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون، التي تأسست في
عام 2001.
ووفق
الكاتب؛ فإنه بالنسبة للعلاقات الأمريكية الصينية في آسيا الوسطى، فالصورة أكثر
تعقيدا؛ حيث يبدو أن البلدين يشتركان في بعض الأفكار، ولكن ليس بالضرورة من نفس
نقاط البداية، وهذه قضايا مثل مكافحة الإرهاب، ودعم تنويع العلاقات الاقتصادية
الخارجية في آسيا الوسطى، ودعم استقلال وسلامة أراضي دول آسيا الوسطى، وتعزيز
الترابط الإقليمي، وتحسين مناخ الاستثمار والتجارة. ومع ذلك، فإنه من الناحية العملية،
لا يوجد تعاون كبير في هذه المجالات بين الولايات المتحدة والصين، وهناك أيضا توتر
جيوسياسي بين الدول المرتبطة بمعارضة الصين للوجود العسكري الأمريكي في آسيا
الوسطى وتصدير "الثورات الملونة" من قبل الغرب، لكنها بدورها لا تثير
صراعات كبيرة.
ورأى
الكاتب أنه على خلفية الوضع الصعب في العلاقات بين القوى الكبرى، أصبحت
الدبلوماسية متعددة الأوجه سياسة مشتركة تتبناها دول آسيا الوسطى؛ حيث يعني التنوع
تطوير العلاقات مع جميع البلدان، فمن الواضح أن الدول هنا تنوي تطوير العلاقات مع
القوى العظمى بخلاف روسيا، لأن العلاقات الوثيقة بين آسيا الوسطى وروسيا كانت
موجودة دائما.
وأشار
الكاتب إلى أن دول وسط آسيا ترى أن الدبلوماسية متعددة الأوجه هي الخيار الأفضل،
لأنها تناسب مصالحهم، فصحيح أن القوى العظمى على خلاف مع بعضها البعض، لكن دول
آسيا الوسطى ليس لديها مطالبات ضدها، ولديهم خلافات في قضايا مثل حقوق الإنسان
والديمقراطية، لكنهم لا يريدون أن يتبعوا قوة عظمى ضد أخرى، ويريدون أن يكونوا
أصدقاء مع كل منهم، لأن هذا من شأنه أن يمنحها مجالا واسعا للمناورة ويساعد على
منع القوى الكبرى من السيطرة والسيطرة على المنطقة.
وعلى
الرغم من الانقسام العميق بين الصين والولايات المتحدة وروسيا ودول الاتحاد
الأوروبي، فقد شكلت دول آسيا الوسطى شراكة استراتيجية أو تعاونا استراتيجيا مع كل
من هذه الدول.
ويعتبر
الاتحاد الأوروبي أحد أهم الشركاء التجاريين ومصادر الاستثمار في آسيا الوسطى؛ حيث
إن أكثر من 30 في المئة من التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية لكازاخستان
تأتي من أوروبا.
ولفت
الكاتب إلى أنه بالتوازي مع مفهوم الدبلوماسية متعددة الأوجه، فقد طرحت بعض دول آسيا
الوسطى أيضا مفهوم "الدبلوماسية المتوازنة"، الذي تمت صياغته في مفهوم
السياسة الخارجية
الكازاخستانية للفترة 2014-2020 ولا يزال ساريا.
وتختلف
الدبلوماسية المتوازنة عن الدبلوماسية متعددة الأوجه في أن الأخيرة ليست بالضرورة
متساوية أو متوازنة، لكن الدبلوماسية المتوازنة، وإن لم تكن بالضرورة متساوية،
فإنها تأخذ في الحسبان توازن القوى الكبرى.
وبين
أن البراغماتية هي سمة مهمة لدبلوماسية دول آسيا الوسطى؛ فهي تقوم على مبدأ تحقيق
فائدة حقيقية للبلد، ويمكن اعتبارها تفسيرا لتطور العلاقات مع جميع القوى الكبرى
على أساس ما إذا كانت قادرة على تحقيق فوائد عملية، وفقط من أجل الفوائد العملية
دون نوايا سياسية والعوامل الأيديولوجية.
الحرب
الروسية الأوكرانية
وذكر
الكاتب أن اندلاع الصراع المفاجئ بين روسيا وأوكرانيا أدى إلى ترك آسيا الوسطى في
شقاق بين القوى العظمى، الأمر الذي فرض عليها الكثير من الضغط، ولكن كان له أيضا
بعض العواقب غير المقصودة؛ حيث أخذ التعاون السياسي والاقتصادي والأمني بين آسيا
الوسطى والقوى الكبرى في التسارع، فقد زار قادة أو مسؤولون رفيعو المستوى من الدول
الكبرى المنطقة واحدا تلو الآخر، ولعبت الهند والاتحاد الأوروبي وروسيا دورا رائدا
في عقد قمم مع آسيا الوسطى.
وأضاف
الكاتب أن العقوبات الصارمة التي فرضها الغرب على روسيا، أفادت دول آسيا الوسطى بشكل
غير متوقع، فقد زادت تجارتها مع كل من أوروبا وروسيا بشكل كبير، مع واردات كبيرة
من أوروبا من ناحية وصادرات كبيرة إلى روسيا من ناحية أخرى، وانتقل جزء من الأصول
الغربية إلى آسيا الوسطى بعد مغادرة روسيا، كما جلب تدفق مئات الآلاف من الأثرياء
الروس بسبب التعبئة الجزئية أموالا إضافية، ووفقًا لتوقعات البنك الأوروبي لإعادة
الإعمار والتنمية؛ فستنمو اقتصادات آسيا الوسطى بنسبة 5.2 في المائة في عام 2023
وبنسبة 5.4 في المائة في عام 2024.
وذكر
الكاتب أنه كان للصراع الروسي الأوكراني أيضا تأثير على العلاقات بين القوى الكبرى
وآسيا الوسطى؛ ما أدى إلى ظهور توقعات بحدوث توتر في علاقات آسيا الوسطى مع روسيا؛
حيث كانت هذه المواقف علامات سيئة بالنسبة لروسيا بالتأكيد، لكنها بشكل عام ليست
قاتلة بأي حال من الأحوال.
ونوه
الكاتب إلى أن العلاقات بين روسيا وكازاخستان أكثر تعقيدا؛ حيث تمتلك كازاخستان
أكثر من 7500 كيلومتر من الحدود المباشرة مع روسيا. في العهد السوفييتي، لم يطلق
على المنطقة اسم "الدول الخمس في آسيا الوسطى"، ولكن "آسيا الوسطى
وكازاخستان"، حيث يقع جزء كبير من أراضي كازاخستان في جنوب غرب سيبيريا وفي
المنطقة الجغرافية لأوروبا، ولهذا تعتبر كازاخستان نفسها بلدًا أوروبيًا آسيويًا،
وهو أحد أسباب رغبتها الخاصة في التكامل الأوروبي الآسيوي.
وأولت
روسيا اهتماما خاصا لآسيا الوسطى منذ بداية الأزمة الأوكرانية. ففي عام 2022؛ زار
الرئيس بوتين جميع دول آسيا الوسطى الخمس للمرة الأولى في السنوات الأخيرة. ولأول
مرة، عُقدت قمة بصيغة 5+1 بين روسيا وآسيا الوسطى، وتوجه تيار كامل من كبار
المسؤولين ورجال الأعمال الروس إلى المنطقة. وبما أن روسيا تنتهج سياسة ودية تجاه
آسيا الوسطى، فلا يوجد سبب يدعو دول آسيا الوسطى إلى إفساد العلاقات معها، لهذا
السبب وعلى الرغم من ضغوط الغرب؛ فقد شارك قادة جميع دول آسيا الوسطى الخمس في العرض
العسكري في الميدان الأحمر في موسكو في 9 أيار/مايو 2023.
وشدد
الكاتب على أن الوضع الذي خلقته الأزمة الروسية الأوكرانية أدى إلى زيادة ثقة دول
آسيا الوسطى بنفسها وإحساسها بالاستقلال والذاتية والقدرة على تكوين علاقات مع
القوى الكبرى في دول المنطقة. وفي الوقت نفسه، لم تتغير علاقاتهم مع روسيا بشكل
جذري؛ حيث إنه ربما يكون موقف روسيا قد تدهور إلى حد ما وتضاءلت قدرتها على
التلاعب بالشؤون الإقليمية إلى حد ما، لكن نفوذ روسيا في آسيا الوسطى لا يزال
عميقًا وقويًا.
من
جهة أخرى؛ فإنه بحسب الكاتب، أضاف الصراع بين روسيا وأوكرانيا بعدا جديدا لسياسة أمريكا
تجاه آسيا الوسطى، وهو تشجيع دول آسيا الوسطى بقوة على الامتثال لنظام العقوبات ضد
روسيا، وذلك من خلال سلسلة من الزيارات إلى آسيا الوسطى من قبل المسؤولين
الأمريكيين والأوروبيين، بما في ذلك وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين ومفوض عقوبات
الاتحاد الأوروبي ديفيد أوسوليفان.
واعتبر
الكاتب أن لدى الدبلوماسية الأمريكية في آسيا الوسطى خططا وأهدافا أكثر طموحا على
المدى الطويل، والتي تنعكس تماما في الاستراتيجية الأمريكية لآسيا الوسطى للفترة
2019-2025، على الرغم من أن الوضع قد تغير بشكل كبير بعد الانسحاب الأمريكي من
أفغانستان واندلاع الصراع الروسي الأوكراني. ومن وجهة النظر الجيوسياسية؛ يظل
إخراج دول آسيا الوسطى من مدار روسيا أحد الأهداف الرئيسية لدبلوماسية الولايات
المتحدة في آسيا الوسطى. وفي الوقت نفسه، أصبحت الصين تدريجيا أحد الأهداف
الرئيسية للولايات المتحدة مع تعمق التوترات الاستراتيجية بين البلدين والتوسع
السريع لوجود الصين في آسيا الوسطى.
في
الماضي؛ أطلقت الولايات المتحدة أو روجت لعدد من مشاريع البناء الكبرى في آسيا
الوسطى. على الرغم من أن هذه المشاريع كانت مصممة فقط لعزل المنطقة عن روسيا
والصين، إلا أنها لم تكن بأي حال سيئة في حد ذاتها.
ويرى
الكاتب أنه يمكن القول على وجه اليقين أنه لا توجد طريقة لتحقيق الفكرة الأمريكية
بسحب آسيا الوسطى من "مدار" روسيا والصين، لأن دول آسيا الوسطى لديها
مصالح عميقة وعلاقات وثيقة مع روسيا والصين، والولايات المتحدة ليست قادرة على
استبدالها.
واختتم
الكاتب مقاله بالتأكيد على أن علاقات الصين مع آسيا الوسطى ستتطور بلا شك بسرعة،
وهذا ليس بسبب الوضع مع الأزمة الروسية الأوكرانية، ولكن بسبب النمو الطبيعي لنفوذ
الصين السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، كما أن سياسة بكين في آسيا الوسطى تلقى
ترحيبا من دول المنطقة.
ويشير الكاتب إلى أن القوة الناعمة للصين في آسيا الوسطى فريدة من نوعها؛ حيث إنها لا
تتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ولا تفرض إرادتها عليها، ولا تطلب اختيار
جانب، ولا تسعى إلى إقامة دائرة نفوذ؛ إضافة إلى أنها تعتبر نموذجًا لدول المنطقة
بعدما حققت انتعاشًا اقتصاديًا سريعًا، لتصبح ثاني اقتصاد في العالم خلال عقود
قليلة فقط، وهو ما يزيد من رغبة دول آسيا الوسطى في التعلم من تجربة الصين الناجحة،
والتي يمكن وصفها أيضًا بأنها القوة الناعمة الفريدة للصين.