قضايا وآراء

العنف المجتمعي على المرأة العربية.. مظاهره وأسبابه

هل هناك خصومة يوما بين الرجل والمرأة؟- CC0
لا يستطيع أحد أن ينكر أن نسبة كبيرة من النساء العربيات تتعرض لنوع من العنف في مراحل مختلفة من عمرها، ولا يستطيع منصف إنكار أن هناك نوعا من المعاناة الممتدة بين ربوع بلاد المسلمين تقع على عاتق النساء دون جريرة أو ذنب إلا كونها فتاة أو امرأة، وأن بعض بقايا الجاهلية ما زالت تحكم عقول بعض الآباء والأزواج والمسئولين، بالرغم من أن المرأة المسلمة تنتمي لدين أنصف المرأة كما لم تنصفها شريعة أو قوانين أرضية أخرى.

فهضم حقوق النساء لا يرجع في حقيقته للالتزام بالدين والتمسك به، بل يرجع للانسلاخ عن الدين وتحكيم شرائع أخرى؛ منها الموروث المجتمعي الظالم، ومنها استحضار قوانين غربية أو قبلية تحكم فيها ولها، فنجد البعض يحرم بناته من التعليم مثلا، ومنهم من يهضمها حقها في اختيار الزواج، ومنهم كذلك من يحرمها حقها في الميراث.

وكثير من المعاناة ما زالت تواجهها المرأة العربية دون أن تجد لها معينا قويا يدرأ عنها تلك المظالم، إلا من أصوات فردية هنا وهناك لا تستطيع مواجهة حائط التقاليد والعادات شديدة الوطأة عليها، وتقف عند إبداء النصح النظري لا العملي، حتى الأصوات النسائية ذاتها ما استطاعت أن تخرج كوادر للدفاع عن حقوقها وتزيل عنها مظاهر العنف المتعددة.

وهناك نوع آخر من الظلم والقهر المضاعف الذي تتعرض له المرأة العربية والذي ربما لم يتعرض له أحد إلا من رحم ربي، فهو ظلم واقع على المرأة ونتج عنه ظلما أكبر للمجتمع، بل للأمة جميعها. هذا الظلم هو تعطيل طاقة المرأة وقدراتها وتوجيهها في غير نفع بإهدار تلك الطاقات في أعمال هي للرجال أقرب لمجرد أن يقال إنها حرة أو عاملة، بينما هي في حقيقة الأمر معطلة، ليكون الناتج ملايين من الشباب بلا هوية، بلا ثقافة، بلا علم، بلا مرجعية محددة، بمستقبل واهن لا يبشر بخير قريب إذا استمر على ما هو عليه من إهمال وسوء قراءة للمشهد وسوء إدارة له.

لقد خلق الله عز وجل المرأة لمهمة قد لا تستوعبها عقول الأجيال الحالية والتي افتقدت لقيمة التربية الدينية العميقة، فطالبت وتمسكت بحقوق هي في حقيقتها أعباء تقع على عاتق المجتمع المسلم كله ولم تجن منها سوى الخراب والفوضى الأخلاقية وسير المجتمع على قدم واحدة.

نظرة الإسلام لقضية المرأة ووصيته نبي الرحمة بها

في مطلع الإسلام لم يكن للمرأة قضية، ولم يكن هناك من يشتكي حالها أو يدافع عن حقوقها، وكان حالها في بلاد العرب رغم انحطاطه أفضل كثيرا من حالها في الحضارات الأخرى، كحضارة الفرس والروم حيث كانت تعاني الوحشية كطبقة متدنية على سلم الإنسانية، هذا إذا كانت إنسانة من الأساس، وفي بلاد العرب كانت الطبقية تحكم، فالأسر الفقيرة في معظم الأحيان كانت تلجأ لوأد البنات، وهي لا ترث في معظم الأحيان لأنها لا تحمل السلاح ولا تدافع عن القبيلة، بل هي تورَّث كالمتاع إذا مات عنها زوجها أو أبيها، إلا القليل من الأسر العريقة والقبائل القوية، فكانت تعامَل النساء معاملة كريمة، وكانت ترث وتتاجر، والسيدة خديجة رضي الله عنها خير نموذج على ذلك، كذلك هند بنت عتبة.

وهكذا أدير المجتمع العربي القبلي بقوانين عُرفية غير موثقة ورضيت المرأة بوضعها دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض على هذا الظلم البيّن والواقع المظلم، وإن كانت تظلله بعض معالم حسن الخُلق، أما نظيرتها في الغرب والشرائع الأخرى فحدث ولا حرج.

فالمرأة عند اليهود هي سبب غواية آدم وخروجه من الجنة، ويجوز لوليّها بيعها إذا أراد، وعند النصارى فيعتبر كتاب "سيمون دي بوفوار"، الناشطة الفرنسية في قضية المرأة، مرجعا هاما لحال المرأة الأوروبية والنصرانية، وقد صدر الكتاب عام 1949، وحرّمته الكنيسة لتقريره أن المرأة كائن إنساني كامل مثل الرجل، وليس مخلوقا في درجة أقل. وقبلها أصدر البرلمان الإنجليزي في عهد الملك هنري الثامن قرارا بحرمان المرأة من قراءة "العهد الجديد" لأنها ليست طاهرة.

أما في الحضارات الوثنية كالإغريقيين والرومان والصينيين والهنود، فهي شجرة مسمومة ولوليها أن يعذبها بصب الزيت المغلي عليها إذا أخطأت، وعند الصيني الحق في دفنها حية، وفي بلاد الفرس أباحوا زواج المحرمات ومن حق الرجل أن يحكم على زوجته بالموت.

وحين جاء الإسلام، نالت المرأة المسلمة مكانة لم تبلغها غيرها حتى اليوم رغم الثورات المتعددة والمطالبات المختلفة والقوانين الدولية التي تدعي رعايتها، جاء القرآن ليقرر أن حقوقها مثل الرجل فقال سبحانه في سورة البقرة كذلك: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعـــرُوف"، وقال سبحانه في سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، وفي آل عمران: "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى".

ويزخر كتاب الله عز وجل بالآيات التي تحض على تكريم المرأة وإلزام وليّها والدا أو زوجا برعايتها وحفظ حقوقها.

وأما فعل النبي صلي الله عليه وسلم مع المرأة فجاء تأكيدا لأي القرآن في مواقف عملية، ففي دعوة الإسلام كان أول من سمع، وأول من دعم، وأول من آمن هي السيدة خديجة رضي الله عنها، وظل صلي الله عليه وسلم محافظا على عهدها وودها حتى بعد وفاتها، ولم يجد الرسول صلي الله عليه وسلم مثل "أسماء بنت أبي بكر" يستأمنها على سر الهجرة، وتذهب بالطعام له في غار ثور روحة وجيئة رغم خطورة المهمة.

ولأهمية تعليمهن وإطلاعهن على كل ما يتنزل من كتاب الله، خصص رسول الله صلي الله عليه وسلم لهن يوما يتلقين فيه العلم. وقد جعل الحبيب مسئوليتها كمسئولية الرجل تماما بتمام وهما في الأجر سواء، فقال فيما أخرجه البخاري: "كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسئول عن رعيته".

كيف ومتى حدث الخلل

لم تكن هناك خصومة يوما بين الرجل والمرأة في دول الخلافة الإسلامية مهما اختلف اسم الخليفة، ولم تكن هناك خصومة بينها وبين المجتمع المسلم حتى بداية ضعف دولة الخلافة العثمانية، فحدث انغلاق ثقافي كبير بين دولة الخلافة والعالم الناهض من حولها، ونشأ ما يسمى بالحرملك وعزل النساء عن المجتمع وحرمانهن من التعليم المخصص للنساء أو لغيرهن وممارسة الحقوق الحياتية فضلا عن الاندماج الفكري، وظهر فكر آخر تداخل مع القيم الإسلامية واختلط بها حتى نسي الناس أحكام دينهم في النساء، حتى إذا سقطت الخلافة وبدأ الانفتاح والاستعمار وحركات الاستشراق والبعثات العربية لجامعات أوروبا، حدث الصدام العنيف بين التقاليد التي لا تمت للدين بصلة، مع الانفتاح الأهوج بالغرب الذي خرج من ثورات عنيفة ضد الدين، وضد القيم، وضد الكنيسة التي تألهت على الناس وفرضت عليهم دينا يخالف الفطرة والعلم، حتى انتصر الناس وأزاحوا الكنيسة واللاهوتية، واستطاعت المرأة كذلك أن تثور وتفرض إرادتها في المساواة في الرواتب مع الرجل الذي لا ينفق عليها من الأساس كزوجة أو كأم.

ومع قدوم الاستعمار العسكري والفكري، وعودة أصحاب الفكر المتغرب، تم نشر أفكار الثورة الفكرية النسوية، والتي وإن كانت لها بعض العذر في بلادها، فهي ليس لها أدنى حق في بلادنا، ففي بلادنا لا تخاصُم ولا تضاد بين الإنسان وبين دينه على غرار ما تم هناك.

يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "المرأة المسلمة في وجه التحديات": "إن المفاهيم التي قدمها كتاب التغريب (طه حسين وسلامة موسي) كانت كلها زائفة ومخالفة للحقيقة والفطرة والعلم والإسلام، كانت ائتمارا على المرأة والأسرة والمجتمع كله، في سبيل إخراج المرأة من رسالتها وأمانتها، وشارك في هذا بعض الشعراء الذين جعلوها فقط للمتعة، لقد كان التصوير للمرأة مشوها وضالا ومثيرا للغرائز، ودعوة إلى شر كثير".

لقد ثارت المرأة هناك على الدين المحرف لأنه لم يجعلها كاملة الإنسانية"، وثارت على المجتمع لأنه لم يساوِها في العمل رغم حاجتها له في الأجور مع الرجال، مع أنها تؤدي أعمالا أشق وتبذل أوقاتا أكبر في مجتمع ذكوري، فهل كانت المسلمة في حاجة إلى مثل هذه الثورة على الدين والمجتمع؟ أم أنها كانت في حاجة لثورة للرجوع إلى الدين لتحصل على حقوقها كاملة، حقوق لا تحلم بها مثيلتها في أوروبا أو غيرها.

لقد تم تشويه القضية كلها وليها عن مسارها الطبيعي وتصوير الأمر كما لو كان حربا على الدين الذي أهدر حقوقها، والحقيقة أنهم لم يريدوا تحرير المرأة من قيود مجتمعية، وإنما تحريرها من دينها.

لقد آن الأوان أن تعيد المرأة حساباتها اليوم في ظل حاجة الأمة إلى دورها الحقيقي في بناء جيل يتحمل مسئوليته، ولن يتأتى هذا الجيل براتب المرأة التي تعين به زوجها، وإنما سوف يتأتى بنهوضها من غفوتها وتخليها عن دورها الأهم في تشكيل الوعي المجتمعي بتربيتها جيل قادر على مواجهة التحديات الكثيرة لنهضة الأمة. ليس مطلوبا من المرأة أن تعمل لتطعم نفسها أو أبنائها، فهذا واجب المجتمع والحكومة، لتتفرغ لما هو أكبر من ذلك بكثير، وهو مهمة تغيير مسار أمة غابت طويلا..
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع