(معايدة)
كل عام وأنتم بخير، داعيا
الله أن ينعم عليكم بالأمان والسكينة والعدل ونعمة الفداء في عيد الفداء.
استثقلت أن أقتطع من وقتكم في
يوم العيد، فأرجأت مقالي لما بعد الطقوس وفرحة الاحتفال، وعندما جلست اليوم لأكتب
قلت لنفسي: لماذا لا أبتعد عن جفاف السياسة والشؤون العسكرية، وأعالج موضوع
الجيوش
الخاصة من خلال مقال سردي، تتعانق فيه الدراما مع التاريخ مع تقلبات السياسة وأمراض
المليشيات المسلحة؟
وكان هذا المقال:
(كائنات الحرب)
الحروب تسبقها أحداث وتحولات،
وتحدث خلالها أحداث وتحولات، وتليها أحداث وتحولات، وبهذا التعريف تصبح الحياة
رحلة متصلة من الحروب المنتظرة، والحروب الجارية، والحروب التي توقفت تاركة خلفها الأسباب
الكافية لبدء حروب جديدة.
والمثير بالنسبة لي، أن توقف الجنود عن القتال يعد من الأسباب الكافية لإشعال الحروب الجديدة، فتلك الكائنات توحشت بعد انتزاعها من نهر الحياة المسالم وتحولت إلى آلات قتل، إنهم يتلقون الأموال والتشجيع والمكافآت مقابل إجادتهم للعبة الموت والخراب، ومن ثم يصعب أن يتوقفوا فجأة، فعندما تهدأ الحرب على جبهة يبحثون عن جبهات أخرى مشتعلة، أو يشعلون العنف والجريمة في قلب المجتمعات المدنية المسالمة، هكذا عانى المجتمع الأمريكي من ظاهرة
"العائدون من فيتنام"، قبل أن تعاني مجتمعات عربية وإسلامية من حالة
"العائدون من أفغانستان"، بعد مقاومة الغزوين الروسي والأمريكي.
توقف الجنود عن القتال يعد من الأسباب الكافية لإشعال الحروب الجديدة، فتلك الكائنات توحشت بعد انتزاعها من نهر الحياة المسالم وتحولت إلى آلات قتل، إنهم يتلقون الأموال والتشجيع والمكافآت مقابل إجادتهم للعبة الموت والخراب، ومن ثم يصعب أن يتوقفوا فجأة، فعندما تهدأ الحرب على جبهة يبحثون عن جبهات أخرى مشتعلة، أو يشعلون العنف والجريمة في قلب المجتمعات المدنية المسالمة.
ويمكن تطبيق المثال على كل
جبهات الحروب من أول التاريخ وحتى آخره، لكنني في هذا المقال، سأحكي لكم عن نموذجين
قدمتهما السينما العالمية، لإلقاء ضوء درامي وأدبي على قضية الحرب والمرتزقة
والجيوش الخاصة، التي تتخذ مسارا مضادا للجيوش الأم التي كانت جزءا منها.
الفيلم الأول: سبعة ساموراي
الساموراي السبعة (حسب
الترجمة الشائعة)، هو الفيلم الياباني الأشهر، والأكثر تأثيرا في السينما العالمية،
أخرجه المعلم "أكيرا كوروساوا" في منتصف الخمسينيات، بعد هزيمة بلاده في
الحرب الثانية وركوع قادتها للمحتل الأمريكي، في استسلام مذل لذاكرة اليابان
الحديثة.
تدور الأحداث في منتصف القرن
الخامس عشر، في قلب "حرب الممالك" في أقصى الشرق باليابان القديمة (بالمناسبة
لا تنسوا أن في الغرب آنذاك، كانت حروب ملوك الطوائف في الأندلس، تتجه نحو الهاوية
المأساوية).
أربط بين الحدثين لتقريب
النظر للحروب؛ كحروب من غير شرق وغرب، ومن غير زمان ومكان، ففي الحروب الخارجية
عادةً تقوم دول وتزول دول، وفي الحروب الداخلية عادةً تنتشر الفوضى والجرائم في
المجتمعات. في الحروب تنقلب الطبقات وتتغير المصائر بحسب نتائج المعارك، فعندما
ينتصر أمير يرتفع مستوى جنوده الاجتماعي والعسكري، وعندما ينهزم أمير يختفي نفوذه
ويتفرق جنوده كمشردين، فيتحولون إلى
مرتزقة لدى أمير آخر، أو يتحولون إلى عصابة
لقطع الطرق والسلب والنهب.
ففي فترات الحرب تتعطل
القوانين وتصبح الكلمة الحاكمة للعنف، يتحول الصعود إلى فرصة خاطفة، ويحدث السقوط
أيضا في لحظة خاطفة. ففي مراحل التفكك السياسي والاجتماعي، يمكن لصعلوك مغامر (مثل
المحتال بريغوجين) أن يتسلق القمم وينجح في الصعود السهل، حتى يتوهم أنه صار قادرا
على فعل كل شيء بما يوافق طموحه الخاص.
في اليابان، كان المحارب
الملتزم بقانون طبقته يسمى "ساموراي"، وعندما ينهزم فإما أن ينتحر أو
يعتزل بعيدا عن الحياة أو يفر إلى المناطق الريفية، ويعتمد في معيشته على السلب
والنهب، ويسمى "رونين" أي "مقاتل منبوذ رحّال".
في فترات الحرب تتعطل القوانين وتصبح الكلمة الحاكمة للعنف، يتحول الصعود إلى فرصة خاطفة، ويحدث السقوط أيضا في لحظة خاطفة. ففي مراحل التفكك السياسي والاجتماعي، يمكن لصعلوك مغامر (مثل المحتال بريغوجين) أن يتسلق القمم وينجح في الصعود السهل، حتى يتوهم أنه صار قادرا على فعل كل شيء.
(مشهد البداية)
كانت القرى الريفية الصغيرة في
سنوات الحرب الأهلية نهبا للمتحاربين وقطاع الطرق، وعاش المزارعون المسالمون في
رعب من صوت قدوم الأحصنة.
نرى من بعيد عصابة على ظهر
الخيل ونسمع أحدهم يقول: هيّا ننهب هذه القرية؟
يرد زعيم اللصوص: ليس الآن،
لقد أخذنا محصولهم في الخريف الماضي، وليس لديهم شيء الآن.
يقتنع اللص: حسنا، سننتظر
حتى ينضج الشعير ونعود إليهم.
في القرية، يتحلق مجموعة من الفلاحين
ويناقشون مصيرهم البائس:
ألا يوجد في هذه البلاد إله
يحمينا؟ عشنا نعاني من الضرائب المرهقة والعمل الشاق والجفاف، والحرب، والآن
اكتملت مأساتنا بقطاع الطرق.
يكمل فلاح آخر: آلهة الحرب
يريدون موتنا.
يوافقه ثالث: هذا صحيح.. لكن
صدقني، الموت أفضل لنا.
يعترض فلاح شاب: ما هذا
الهراء؟ البكاء لن يغير شيئا، فلنحاول طلب المساعدة من الحاكم، أظنه يستطيع فعل
شيء مفيد غير جمع الضرائب.
يسخر رابع: الحاكم؟! إنه لا
يظهر إلا بعد أن يسرقنا اللصوص ويذهبون، يتفقد أحيانا بعض القرى المنهوبة ويُظهِر
الشجاعة والتعاطف في الكلمات، ولا شيء غير ذلك.
يعقب أحدهم: لديك حق، إنه
عديم الفائدة.
يقول فلاح خائف بواقعية
يائسة: أقترح تقديم الأرز والشعير وكل ما يطلبه منا قطّاع الطرق، حتى نحافظ على
سلامة بيوتنا وعائلاتنا؛ إنهم يحرقون القرى التي لا تستجيب لطلباتهم.
يتهكم الفلاح الرابع مجددا معلقا على رأي جاره المستسلم: وبعد أن نعطيهم كل ما لدينا، نشنق أنفسنا بالمرة.
يعقب فلاح خامس بمزيد من
السخرية المريرة: فكرة جيدة، هذا سيجعل الحاكم يأتي إلى هنا بسرعة.
يعود الفلاح الشاب للحديث
الحماسي: لا بد أن نقتل قطاع الطرق، لن يتكرر ما يفعلونه بنا، لا بد أن نقاوم
ونقتلهم جميعا.
يرد الفلاح الواقعي من خلال
خبرته السلبية: هذا كلام فارغ، نحن لا نملك أية فرصة لمواجهة قطاع الطرق، فعندما
نقاومهم ونخسر سينحروننا جميعا، ولن يتركوا الأجنّة في بطون الأمهات.
يعلق الفلاح الشاب وهو ينهض
من مكانه: طفح الكيل، المخاطرة أفضل من عيش هذه الحياة الذليلة، اقتلهم أو دعهم
يقتلونك. خيارنا الوحيد هو الصمود.
يدافع الفلاح الخائف عن وجهة
نظره: لا يمكننا عصيان الأقوياء، عندما يصل قطاع الطرق، سنحيّيهم بخضوع ونسلم لهم
الشعير بهدوء، ونتوسل إليهم أن يتركوا القليل لنا من أجل النجاة، هذا كل ما
نطلبه. سنركع أمامهم لكي يتعطفوا علينا بالقليل من الطعام، لكي نعيش ونزرع
المحاصيل ليجدوا شيئا لهم في المرات القادمة، وأظن أن أي قاطع طريق سيوافق على
ذلك؟ هل نسيتم كم كان علينا الانحناء من أجل الأرز الذي نأكله الآن؟
يرد الفلاح المتحمس: دع الذئب
يتذوق قدمك، وبعدها سيطلب رأسك، عندما يأخذون المحصول برضانا ويتركون لنا القليل،
سيعودون مجددا في كل موسم حصاد ويطلبون المزيد، ولن يتوقفوا أبدا.
تتعالى الأصوات وتتصاعد
الخلافات، فيقول أحدهم بصوت مرتفع، توقفوا عن الشجار، يجب علينا استشارة حكيم
القرية.
عندما ذهبوا إلى الحكيم، قال
لهم بوضوح: لا يوجد حل إلا القتال.. سنقاتل اللصوص.
قال الفلاح الخائف: أيها
الحكيم هذا جنون، نحن مزارعون، ماذا نعرف نحن عن القتال؟
قال الحكيم: علينا أن نقوم باستئجار
فرسان من الساموراي لمواجهة اللصوص.
رد الفلاح: ليس لدينا أموال،
نحن لا نملك إلا الطعام، هل يوجد ساموراي يقاتل من أجل المزارعين مقابل وجبة من طعام
الفقراء؟
أجاب الحكيم: هناك الكثير
منهم، عليكم البحث عن ساموراي جائع.. حتى الدببة تأتي من الجبال عندما تجوع.
وهكذا بدأت رحلة البحث عن
"مرتزقة" لحماية القرية من لصوص كانوا في الأصل محاربين.
(مشهد النهاية)
نجح سكان القرية في استئجار
خدمة سبعة ساموراي، وبدأ الاحتكاك بين العالمين المختلفين: عالم المزارعين
المسالمين، وعالم المحاربين، كل شيء يمضي تحت ضغط الاضطرار: قلة عدد المحاربين
تستوجب مشاركة الفلاحين في أعمال الدفاع وخطط الحماية. توجس الفلاحون من الغرباء
برغم حاجتهم إلى بقائهم وإفساح بيوتهم لاستضافتهم، وهو الإحساس الذي جعل الفلاح
"مانزو" يعترض على فكرة استضافة محاربين، خوفا على عفة ابنته، فالحرب
مقرونة في ذهنه بالاغتصاب وتحطيم حياة المدنيين، ولم يتنازل "مانزو" عن
اعتراضه إلا بعد أن قال له الحكيم العجوز: أنت تفكر في شَعرك، بينما رأسك على وشك
أن يطير!
هكذا تتغير القناعات الشخصية
في مراحل الاضطرار.. الكل مضطر تحت ضغوط اللحظة، حتى قائد الساموراي نراه في أول
ظهوره يقص طائعا "كعكة شعره"، وهو فعل لا يقوم به أي محارب ساموراي حتى
الموت، ويتضح في المشهد التالي أنه تخلى عن هويته مضطرا، وتنكر في زي
"كاهن" من أجل إنقاذ طفل اختطفه قاطع طريق من مشردي الرونين.
إذن انصرف العسكريون إلى حال سبيلهم بعد المعارك وتركوا حياة المسالمين تمضي في أمان، أما إذا استمرت "الضرورة حاكمة" وجسرا لاستيلاء المحاربين على سلطة الحياة، فإن قلق "مانزو" لا بد أن يتحول إلى كابوس كئيب يفسد حياة القرية كلها تحت وطأة المرتزقة الذين صاروا حكاما مزمنين.
تمضي الضرورة تتحكم في كل
الناس وتغير من أفكارهم، حتى تنتهي معركة الدفاع عن القرية بالانتصار على قطاع
الطرق، وينجو أربعة فقط من الساموراي، وبينما يغادرون القرية، يلتفت أحدهم إلى
المقابر من فوق التل ويقول:
لقد فعلناها.. نجونا مرة أخرى،
لكننا خسرنا الحرب!
* ماذا؟
- أعني أننا نكسب القتال
ونخسر نتائج الحرب.. النصر لهؤلاء الفلاحين وليس لنا.
خاتمة ملهمة، إذن انصرف العسكريون
إلى حال سبيلهم بعد المعارك وتركوا حياة المسالمين تمضي في أمان، أما إذا استمرت "الضرورة
حاكمة" وجسرا لاستيلاء المحاربين على سلطة الحياة، فإن قلق "مانزو"
لا بد أن يتحول إلى كابوس كئيب يفسد حياة القرية كلها تحت وطأة المرتزقة الذين
صاروا حكاما مزمنين.
الفيلم الثاني: القيامة الآن
يصعب عليّ الكتابة عن قصة هذا
الفيلم المحيّر والخطير للمخرج الفيلسوف فرانسيس كوبولا، على الرغم من أن القصة
محدودة ومكررة في ظاهرها.
ضابط أمريكي ينشق في أثناء حرب
فيتنام ويؤسس جيشا خاصا من أفراد القبائل في كمبوديا، ويحترف القتل في كل الاتجاهات،
وتسعى القيادة الأمريكية للتخلص منه سرا، فتدبر عدة محاولات لاغتياله، آخرها
المحاولة التي يتناولها الفيلم من خلال إرسال الضابط "ويلارد" لاغتيال
العقيد كرتز المنشق الذي وصفوه بالمجنون، وينتهي الفيلم بالتخلص من كرتز وهو يردد كلماته
الأخيرة: "الرعب.. الرعب".
انشقاق "كرتز" قد يشبه في الظاهر تمرد "بريغوجين"،
لكنه لا يشبه بريغوجين نفسه في أي شيء. العقيد "والتر
كورتز" بحسب حديث ضابط المخابرات للنقيب المكلف باغتياله: كان واحدا من أكثر
الضباط مكانة وكفاءة بين كل ضباط البلاد، كان رائعا في القتال ورائعا في روحه الإنسانية، ذكي ومرح، انضم للقوات الخاصة مضحّيا بوظيفة مرموقة في الإدارة، لكن تصرفاته بعد
ذلك أصبحت خاطئة، انتقل إلى منطقة الجبال في كمبوديا وأسس
جيشا من قبيلة "مونتجنارد"، وصاروا يعبدونه هناك مثل إله، في الحرب كل شيء
يصبح مشوشا؛ القوة والأفكار والمبادئ القديمة والواجبات العسكرية. ولهذا وقع كرتز
تحت إغراء أن يكون إلها، فهناك صراع في قلب كل إنسان بين
العقل والجنون، بين الخير والشر، والخير لا ينتصر
دائما؛ لأن الجانب المظلم قد يتغلب على ما سماه
لينكولن بالملائكية في النفس البشرية. كل إنسان لديه نقطة ضعف، ومن الواضح جدا أن
كرتز أصيب في نقطة ضعفه وفقد عقله، لذلك يجب أن تبذل كل ما في وسعك وتستعمل كل شيء
ممكن وغير ممكن للقضاء على العقيد، وبالطبع أنت تفهم أيها النقيب أن المهمة سرية
للغاية، غير موجودة ولن تكون موجودة أبدا.
يعلق
النقيب "بنيامين ويللارد" الذي يعاني من الضياع والكوابيس والتشوش
ويقترب من مصير "كرتز" قائلا لنفسه:
في
بادئ الأمر ظننت أنهم أخطؤوا في الملف الذي تسلمته، لم أصدق أنهم أرادوا قتل ذلك
الرجل، لقد سمعت رسالته الصوتية للقيادة وصعقتني شجاعته ووضوحه، عندما عاد في عام
1964 من جولة استطلاعية في فيتنام، وقدم تقريرا لهيئة الأركان المشتركة عن سوء
الأحوال، ما أدى إلى إحراج ليندون جونسون.
وبالطبع
لم يهتموا بتقريره وبدأت المنغصات، وفي عام 1966 طلب الانضمام للقوات الخاصة عائدا إلى فيتنام كمقاتل، وهناك حدثت التحولات التي أرادوا محاكمته عليها بتهمة القتل
بدون إذن، وهكذا أصبح القَتَلة يطالبون بمحاكمة واحد منهم بتهمة القتل! أمور
مربكة ومشوشة!!
(فاغنر
في فيتنام)
في
طريقه إلى الهدف، يلتقي النقيب ويلارد بالملازم كيلجور ويطلب مساعدته لعبور النهر
في مهمة سرية، ويرفض الملازم غريب الأطوار الذي يحب التزلج على الأمواج ويرقص في أثناء القصف، ويقول لجنوده عندما تندلع نيران النابالم في الغابات: أحب رائحة
النابالم في الصباح، وقبل مهاجمة الأعداء بميل تقريباَ يضع موسيقى "فاغنر"،
وعندما يسأله ويللارد مندهشا من ذلك يقول؛ إنها قوية وتخيفهم، وجنودي يحبونها!
لا
أحد يعرف حقيقة العلاقة بين هذا المشهد من الفيلم وبين الضابط الروسي ديمتري
أوتكين الذي كان يدعى باسم "فاغنر"، وأسس المنظمة العسكرية التي تحمل
اسمه بعد استقالته في أعقاب حرب الشيشان، لكن الصلات تبدو واضحة في الخروج من
الخدمة، وتأسيس مسارات خاصة، واستخدام التخويف و"إدارة التوحش" كمفهوم
مركزي للبقاء حسب "داروين" أو "هوبز"، لا فرق بينهما، وهذا
كله تحت تأثير التشوهات التي تتعمق داخل المحارب حتى تصل إلى "قلب
الظلام" داخل النفس البشرية.
(قبر
من المرمر الأبيض)
أعود
إلى تعبير "قلب الظلام" في ختام الفقرة السابقة، لأذكركم بأن فيلم
"القيامة الآن" اعتمد في بادئ الأمر على رواية شهيرة بهذا العنوان كتبها
جوزيف كونراد في مطلع القرن العشرين عن بشاعة السلوك الاستعماري في أفريقيا، ووصف
فيها الحضارة الأوروبية بأنها "قبر من المرمر الأبيض"؛ ظاهره لامع
وناصع، وباطنه مظلم ولا يحتوي إلا الموت..
تناولت
الرواية رحلة للبحث عن موظف في شركة عاج بلجيكية تعمل في الكونغو، قيل إنه يتحكم
في القبائل ويمارس القمع والقتل. والموظف يدعى "ميستا كرتز"، وفي نهاية
الرحلة يموت كرتز وهو يردد "الرعب.. الرعب"!
لا
يوجد تشابه كبير بين القصة والفيلم إلا في الخط العام لشخصية كرتز، وفي النظرة
للحضارة الغربية باعتباره "قبرا" ومركزا للموت، فبينما يصفون الآخرين
بأنهم همج ومتوحشين وغير متحضرين إنسانيا، تؤكد القصة والفيلم معا العكس. الهمج والمتوحشون هم قادة الغرب الذين يمارسون النهب والقتل وتجريد الإنسان من
إنسانيته، وهو المرض الذي أصاب كرتز وحاول "مارلو" في الرواية"
و"ويللارد" في الفيلم النجاة منه.
(مشهد
النهاية)
يتسلل ويلارد على مكمن كرتز داخل المعبد في أثناء طقس
وثني لذبح فحل من الجاموس، ويقتله بمنجل، بينما كرتز لم يقاوم كأنه ينتظر الخلاص
من عذابه بقتل مشرف كجندي، وليس بانتحار يائس.. ويكرر ويللارد تعبيره عن الرعب
الذي كان يشعر به وتحدث عنه مع ويللارد من قبل: الرعب.. إنه أخطر شيء نقابله،
اجعله صديقك؛ لأنك لا تستطيع أن تتحمله كعدو.
وبينما نتوقع أن يغضب أتباع "الإله كرتز"
وينتقمون من القاتل، نشاهدهم ينظرون إليه بهدوء، ثم يركعون ويضعون أسلحتهم على الأرض، باعتباره الإله الجديد، الذي حلت في
جسده قوة إلههم القديم، لكن "ويللارد" لا يستسلم للغواية التي كان
يعرفها مسبقا، ويمضي في طريق معاكس لاختيار "كرتز"، متذكرا كلماته
التحذيرية: الرعب.. الرعب..
وبينما تصل إليه رسائل من القيادة
على جهاز الاستقبال، لا يرد، بل يغلق الجهاز ويعم الظلام، فلا نعرف هل ينشق
ويللارد على قيادته؟ أم يستقيل ويتجنب مصير الضائعين، أو "الرجال
الفارغين" كما وصفهم إليوت في قصيدته الشهيرة التي قرأها "كرتز"
عليه كاشفا الخواء الذي يصيب روح القتلة، ويجعل منهم "مرتزقة ضائعين"
و"رونين مشردين" و"دمى من القش تحركها الريح"؟!
وللقضية بقية..
tamahi@hotmail.com