لم أجد عنوانا أكثر تعبيرا عما حدث في أثناء النقاش الدائر حول ميزانية
إسرائيل للعامين 2023 و2024 سوى ما أورده الكاتب الإسرائيلي نحاميا شترسلر في مقال كتبه، الثلاثاء الماضي، قبل إقرار
الموازنة بيوم واحد، التي تمت في الساعات الأولى من صباح الأربعاء، بعد خلافات شديدة ليس مع المعارضة الإسرائيلية، بل مع مكونات الائتلاف الحكومي الدينية التي عاشت على هوامش التحالفات كحالة أجادت لعبة ابتزاز اللحظة الأخيرة.
رضخ
نتنياهو المستعد لعمل أي شيء يمنع سقوط حكومته مهما كلف المواطن الإسرائيلي من ثمن لمطالب القوى الدينية، وتحديدا حزبي «يهدوت هتوراة» ومكونه حزب «أغودات إسرائيل»، بصرف ربع مليار شيكل لمعاهد التعليم الديني التي يديرانها، ونفس المبلغ حصل عليه حزب «عوتسما إسرائيل»، وهما هددا بعدم التصويت على الميزانية إذا لم يرضخ رئيس الوزراء. وحسب القانون في إسرائيل تحل الكنيست تلقائيا وتذهب الدولة لانتخابات حال عدم إقرار الميزانية، وهو ما لا يريده نتنياهو في ظل استطلاعات الرأي التي تؤشر لانزياح كبير لصالح خصومه، وتمكنهم من تشكيل حكومة.
الأحزاب الدينية حازت على حصة الأسد في الموازنة الجديدة، وهو ما أثار الفزع لدى المعارضة العلمانية وخبراء الاقتصاد الذين ذهبوا أبعد من ذلك، محذرين نتنياهو من أن هذه الميزانية «تشكل خطرا وجوديا على مستقبل دولة إسرائيل». أما صحيفة «هآرتس»، فقالت في افتتاحيتها: «ميزانية إسرائيل ستدخلها إلى مسار من التدهور والضعف والجهل والفقر»، وهو ما كتبه نحاميا شترسلر في مقاله، إن «الميزانية ستحول دولة إسرائيل إلى دولة دينية فقيرة متخلفة، المستثمرون لن يأتوا إلى مثل هذه الدولة التي تنتحر بشكل متعمد، والعلمانيون سيرحلون، والاقتصاد سينهار».
أما كيف ذلك؟ إليكم الجواب، فمنذ الثمانينيات نشأت حالة تعادل بين الحزبين الكبيرين، ما سمح لقوى دينية أن تصبح بيضة قبان تشكيل الحكومة مع «العمل» أو «الليكود». ولم تهتم تلك القوى الصغيرة سوى بحلب بقرة الحكومات لصالح مؤسساتها التي أنشأتها، وأهمها المؤسسات التعليمية الدينية ومعاهد التوراة. وتمكنت من الضغط بحكم أهميتها لتشريع امتيازات للمدارس والمعاهد الدينية، فأخذت تلك المدارس تنتشر بكثرة في العقود الأربعة الأخيرة، وهي تهتم فقط بالتعليم الديني التوراتي، أما المعاهد فلا يدرس فيها الطلاب سوى التوراة.
إسرائيل دولة متقدمة علميا، وقد تأسست على التعليم والرياضيات، وفي كل عام تجري تقييما لمستواها في الرياضيات قياسا بالعالم. لكن المدارس الدينية لا تعلم لا الرياضيات ولا اللغات، والمعاهد الدينية تعلم فقط حفظ التوراة وتفسيرها، ذلك يؤدي إلى عدم تأهيل الطلاب لسوق العمل وتحكم على مستقبلهم بانعدام الخبرة التي يحتاجونها للعمل، وأفضل ما يمكن أن تخرجه هو طالب يجيد الكلام عن الدين ويصلح فقط لوظيفة الكلام، أو مراقب كوشير للطعام لا أكثر. وأزمة إسرائيل أن الميزان الديمغرافي يسير صاعدا باتجاه زيادة تلك الكتلة الدينية، التي يتوقع خبراء وزارة المالية أن تصل في العام 2060 إلى نصف الطلاب، وستكلف الدولة حتى ذلك التاريخ 6,7 تريليون شيكل.
الاتفاقيات الائتلافية على الميزانية تضمنت ضخ مبالغ غير مسبوقة لأهداف كابحة للنمو الاقتصادي ومضاعفة ميزانيات المدارس والمعاهد الدينية وطلاب الدين، وارتفاع حاد لميزانيات المؤسسات الحريدية التي لا تعلم المواضيع الأساسية، وبذلك تحكم على طلابها بحياة الفقر والتعلق بميزانيات الرفاه والإغاثة. هنا المشكلة، فخريجوها ليسوا مؤهلين للاندماج في سوق العمل، ومن ثم هم عبء على الدولة وموازنتها يقابله تراجع في المؤهلين اقتصاديا، ومن ثم مع الميل الديمغرافي لصالح الكتلة الدينية، يصبح العبء أكبر من أن تتحمله القوى العاملة التي تتضاءل، ما يعني ترديا في مستوى إسرائيل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي.
تتضح الأزمة بشكل أكبر في أن هذه الموازنة التي تضمن توزيعا في صالح التعليم الديني، هي لدولة يعاني اقتصادها من عدة مستويات من التراجع بعد جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، والأهم بسبب التعديلات القضائية المقترحة وتأثيرها الأكبر على الاقتصاد، وهو ما يتضح من التدخل المتتابع لبنك إسرائيل لرفع أسعار الفائدة للحفاظ على قيمة الشيكل، فقد رفعها هذا الأسبوع إلى 4.75%. وهذا التدخل يحدث للمرة العاشرة منذ شباط العام الماضي، الذي بدأ بـ 3.5% أي تضاعفت بنسبة 1200% ولم يهبط غلاء المعيشة ولم تتحسن قيمة الشيكل. وبدلا من ميزانية تقشفية علاجية، تنفق إسرائيل موازنة لتعليم الدين، وهو ما وصفة لابيد بأنه «كارثة على البلاد».
تأسست إسرائيل كدولة علمانية مستفيدة من التراث الأوروبي بفصل الدين عن الدولة حين أقلعت أوروبا نحو العلم والحضارة، وأبعدت إسرائيل رجال الدين عن السياسة كما أوصى هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية»، واعتمدت على العلم وحجزت المتدينين في كنسهم، فأصبحت دولة قوية تمكنت من تحقيق تقدم على الأصعدة كافة، وتحقيق تفوق لافت قياسا بدول الجوار. وفيما كانت تغرق الدول الدينية في كتبها وفقرها وأحاديثها القديمة، كانت إسرائيل تبني مستقبلا، ولكن يبدو أن هذا المستقبل وصل إلى ذروته في استدارة كبيرة نحو الأصول الدينية، التي تجرها نحو العالم الثالث كدولة دينية وشعب يعتزل التقدم. يقول الخبراء؛ إن هذا لن يظهر خلال عام أو عامين، لكنه سيظهر بعد عقد وعقدين بصورة أعمق، وحينها سنرى حاخاماتها يجيبون يوما ما عندما يتم سؤالهم عن الاختراعات والتقدم والاكتشافات، وسط بيئة فقيرة متخلفة فيقولون: «ما خُلِقنا لهذا بل لقراءة التوراة»، والبقية عندكم.
(الأيام الفلسطينية)