تكابد
الخرطوم منذ الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023، مشقة استعادة الأوضاع التي كانت
عليها قبل الانقلاب العنيف والفاشل الذي نفذته قوات
الدعم السريع على رأس الدولة،
في معركة ملحمية خاضها حراس منزل الرئيس البرهان، وأفشلوا من خلالها الضربة المؤثرة
الأولى للانقلابيين، ليدخل
السودان بعدها في موجة من العنف تطفو فوق سطحها ذات
الشعارات والعبارات والذرائع التي تكرس "الدعم السريع"، كجزء من المخطط الإقليمي
ذاته الذي أوصل جماعة
الحوثيين المسلحة إلى صنعاء وأسقط السلطة الانتقالية وزج باليمن
في أتون حرب مدمرة تعصف به حتى اليوم.
في
حرب
اليمن جرت التضحية بالدولة وسلطاتها ومؤسساتها، وسُلمت هذه التركة الثمينة
لجماعة طائفية انقلابية مسلحة، تتحكم بالجزء الشمالي منه، وتملك تصوراً خطيراً عن
مستقبل اليمن، لا باعتباره وطناً، بل ملاذاً لفصيل ديني استئصالي ومغرق في الطائفية،
ويصرّ على إعادة تشكيل صورة اليمن وفقاً لقناعاته السياسية والأيديولوجية، المرفوضة
من الغالبية العظمى من اليمنيين، الذين كانوا قد نجحوا بالفعل خلال العام 2013
وعبر حوار وطني ناجح، في صياغة مستقبل اليمن وتحديد ملامح دولته ونظامه السياسي باعتبارها
دولة شراكة ومواطنة وسلام.
أما
في جنوب اليمن فقد جرى تثبيت جماعات سياسية وفصائل مسلحة، وبدعم إقليمي سخي؛ جرى ويجري
التمكين لمشروع سياسي يدور حول فكرة انفصال الجنوب عن الدولة اليمنية، ويُحشرُ
بقوة في مسار التسوية السياسية، ليكون جزءاً من عملية تفاوضية نهائية، وبقدر ما
تفتح آفاقاً لإمكانية ازدهار المشروع الطائفي في الشمال، فإنها أيضاً تُبقي المجال
مفتوحاً لإمكانية تقسيم اليمن وتفكيكه، فيما يجري الحديث عن سلام تضع السعودية كل
ثقلها من أجل إنجازه، وتسارع إلى اقتراح وتقديم التنازلات المجانية لفرض هذا
السلام الذي لا نراه سوى طعنة في خاصرة اليمن وامتهاناً علنياً لكرامته الوطنية.
دُمر اليمن وتفككت دولته ومضى هذا السيناريو الخطير على رقاب اليمنيين، منذ اللحظة الأولى لسقوط العاصمة صنعاء في براثن الانقلابيين، الذين أثار دخولهم المدينة بتلك الهيئة الرثة والعبثية وغير المبررة، مع وجود جيش قادر على صدها بكل سهولة وحماية وتحصين العاصمة، نشوةً استثنائية لدى البعثات الدبلوماسية الغربية، وأدخلَ في قلوب أعضائها السرور
دُمر
اليمن وتفككت دولته ومضى هذا السيناريو الخطير على رقاب اليمنيين، منذ اللحظة
الأولى لسقوط العاصمة صنعاء في براثن الانقلابيين، الذين أثار دخولهم المدينة بتلك
الهيئة الرثة والعبثية وغير المبررة، مع وجود جيش قادر على صدها بكل سهولة وحماية
وتحصين العاصمة، نشوةً استثنائية لدى البعثات الدبلوماسية الغربية، وأدخلَ في قلوب
أعضائها السرور، لأن المخطط كان يقضي بأن يُسمح لعناصر هذه الجماعة المسلحة بدخول
صنعاء وانتهاك مؤسسات الدولة واستباحتها، دون مقاومة تذكر من جيش الدولة وأمنها. والذريعة
كانت هي تحييد قيادات ساندت ربيع اليمن، والانقضاض تحديداً على مؤسسات وكيانات وصفت
حينها بأنها إسلامية ورافدة للنشاط الإرهابي المزعوم، وكان التوصيف في الحقيقة
يطال مؤسسات مدنية وأحزاباً التحمت مع ثورة الشعب اليمني، وصارت جزءا إيجابياً من العملية
السياسية السلمية التي تدفع باليمن نحو السلام.
منذ
أن تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية عسكرياً فجر السادس والعشرين من آذار/ مارس
2015، بدأت البعثات الدبلوماسية بالانسحاب، بمستوى أقل من الإرباك والخوف الذي حدث
في الخرطوم.. فقد كان التفاهم على أعلى مستوياته مع جماعة الحوثي والقوات الموالية
لعلي عبد الله صالح، في صنعاء، لهذا كان الانسحاب آمناً وغير مكلف من كل النواحي.
أما
في الخرطوم فيبدو أن الانقلاب كان مفاجئاً في توقيته، وكان يمكن أن لا تضطر معه
البعثات الدبلوماسية إلى المغادرة إذا ما نجحت قوات الدعم السريع في الانقلاب،
والسيطرة على الدولة السودانية، غير أن فشلها في تحقيق هذا الهدف حوّل الخرطوم إلى
ساحةِ معركةٍ منفلتة من كل المعايير وقوانين الحرب، أكثر من يعبر عنها هي قوات الدعم
السريع التي أثارت الرعب ومارست أعمال القتل والنهب والاعتداء على قوافل البعثات
والنازحين، مما أفضى إلى المشاهد المذلة للقوافل الدبلوماسية وهي تغادر الخرطوم،
دون أن تدعي بأنها تملك تأثيراً يمكن أن يجلب لأعضائها الأمان من تداعيات المعركة
المنفلتة وشظايا القذائف ومن الرصاص الطائش.
تصادم الإرادات الإقليمية على الساحة السودانية وتعارض المصالح هو الذي قلل إلى حد كبير من أهمية الخطاب الإعلامي الحربي الذي تضخه المنظومة الدعائية لقوات الدعم السريع ومن يساندها من إعلام الإقليم، الذي يحاول أن يضع هذه المليشيات الانقلابية في مكان الضامن الوطني لعملية الانتقال الديمقراطي في السودان، والبديل المناسب للإرث السياسي الإسلامي لثورة الإنقاذ
إن
تصادم الإرادات الإقليمية على الساحة السودانية وتعارض المصالح هو الذي قلل إلى حد
كبير من أهمية الخطاب الإعلامي الحربي الذي تضخه المنظومة الدعائية لقوات الدعم
السريع ومن يساندها من إعلام الإقليم، الذي يحاول أن يضع هذه
المليشيات الانقلابية
في مكان الضامن الوطني لعملية الانتقال الديمقراطي في السودان، والبديل المناسب للإرث
السياسي الإسلامي لثورة الإنقاذ. وهو ادعاء الهدف منه في الأساس رفع الحصانة عن
الجيش السوداني، تبريراً للتضحية به كما جرت التضحية بالدولة اليمنية لحساب جماعة الحوثي،
بالمبرر ذاته والذريعة ذاتها وهي تخليص اليمن من الإرهاب المزعوم.
في
اليمن ارتكب الجيش، وبإيعاز من الرئيس المنتخب عبد ربه منصور هادي وعلي عبد الله
صالح الذي كان يمتلك تأثيراً قوياً على المؤسسة العسكرية وعلى الأجهزة الأمنية رغم
خروجه من السلطة، خطأ فادحاً عندما تآمر وامتنع عن القيام بواجبه في الدفاع عن
الدولة والعاصمة -كما يفعل اليوم الجيش السوداني في الخرطوم- وتحول للأسف إلى وسيط
بين جماعة الحوثي وبعض وحدات القوات المسلحة، التي اختارت الدفاع عن اليمن ضداً على
التوجيهات المخادعة والخبيثة من قيادتي الدولة والجيش في ذلك الصيف الحزين من عام
2014.
إن ما
يدفعه السودان اليوم من أثمان باهظة من دماء أبنائه ومقدراته، ودولته وأمنه
واستقراره، هو نتيجة للمؤامرة الإقليمية، التي تختفي أهدافها ومراميها، خلف قناع
المواجهة العنيفة بين المليشيات العاملة بالوكالة والمشاريع الوطنية، في السودان
كما في اليمن كما في ليبيا وسوريا، فالمؤامرة تقتضي عدم وجود دول تستند إلى شرعية
وطنية، وتمتلك مقومات استقلال القرار والتوظيف الحر للموارد لصالح الشعوب، لا ضداً
على تطلعاتها وكرامتها.
twitter.com/yaseentamimi68