لم يمضِ زمن طويل أعقب الانتفاضة الشعبية
السودانية التي أطاحت بسلطة عمر حسن البشير، في نيسان (أبريل) 2019، حتى ترسخت السلطات تباعاً في قبضة حفنة من جنرالات الجيش الذين كانوا ورثة نظام بادت بعض رموزه وبقيت معظم مكوّناته العسكرية، خاصة الميليشيات شبه العسكرية، وأبرزها «قوات الدعم السريع»، بقيادة محمد حمدان دقلو (
حميدتي). وهذا الأخير توافق، واتفق، مع الفريق أوّل عبد الفتاح
البرهان، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة وقائد انقلاب تشرين الأول (أكتوبر) 2021 في آن معاً؛ في مختلف التطورات المفصلية التي شهدها البلد خلال السنوات الأربع المنصرمة.
كانا شريكَين في ادعاء رغبة الجنرالات بتقاسم السلطة مع المكونات المدنية وتسمية عبد الله حمدوك رئيساً للوزراء. ولم يختلفا حول إصدار الأوامر بمداهمة اعتصام شعبي أمام وزارة الدفاع في العاصمة، حيث قُتل نحو 100 متظاهر مدني سلمي. وتعاقدا مع الفصائل المتمردة في إقليم دارفور الغربي على اتفاقية سلام، ضمنت سكوت المسلحين إزاء سيطرة العسكر على مقاليد الأمور. ولم يجدا أي مشكلة في اللحاق بركب التطبيع مع دولة الاحتلال، من دون أي مرجعية مدنية شرعية. والأعلى تعبيراً عن انسجام الرجلين كان اشتراكهما في انقلاب مشؤوم أسفر عن حلّ الحكومة المدنية واعتقال حمدوك واتخاذ سلسلة من التدابير الانقلابية والإمعان أكثر في قمع حركات الاحتجاج الشعبية، المدنية والسلمية دائماً…
مسار اتفاق مديد متعاقب، لم يتعكر صفوه إلا مرّة واحدة فقط، مؤخراً، حين توجّب تقاسُم النفوذ بينهما، عشية مفاوضات العسكر حول دمج «الدعم السريع» في الجيش. فالشراكة هنا لا تقتصر على توزيع الصلاحيات مناصفة مثلاً أو على نحو يُرضي ضباط حميدتي ولا يُذلّ ضباط البرهان، فحسب؛ بل كذلك على عقبات أخرى كأداء، أخّرت على دفعتين توقيع اتفاقيات ما يُسمّى «الإصلاح العسكري والأمني».
هنالك اقتصاد استثماري واحتكاري واسع النطاق ينخرط فيه المكوّنان العسكريان، مع فارق أنهما ليسا على وفاق كافٍ من حيث الحصص والمكاسب، ومن حيث التصارع والتنافس. هنالك، تالياً، العدالة الصلبة، غير الانتقالية كما يتوجب القول؛ سواء على أصعدة خارجية ودولية تخصّ الاتهامات بارتكاب جرائم حرب في دارفور، أو في الداخل على صلة بجرائم حرب أخرى بحقّ المتظاهرين في السودان ذاته.
وما لا يصحّ أن يُغفل بصدد «الدعم السريع» حقيقة أنّ هذه الوحدات اتخذت منذ البدء، عند تشكيلها سنة 2013 بهندسة شخصية من البشير، هيئة هراوة قمع غليظة تتجاوز المهامّ القتالية العسكرية التقليدية إلى وظائف أمنية واستخباراتية متعددة؛ الأمر الذي بدأه البشير من وحي محاكاة مباشرة لتجربة النظام السوري وحافظ الأسد في تشكيل «سرايا الدفاع» والعهدة بقيادتها إلى شقيقه رفعت الأسد.
حقيقة أخرى، غير منفصلة إذا لم تكن مكمّلة، هي أنّ «الدعم السريع» تولت وظائف أقرب إلى أعمال المرتزقة بالآجار، خصوصاً على الحدود مع ليبيا ضمن ردع موجات اللجوء من إرتيريا وإثيوبيا؛ وتوجّب أن يختلط هذا الارتزاق الأمني بطراز خاصّ من استئناف روحية الجنجويد (ميليشيات «الدعم السريع» الأمّ) لجهة التنكيل الطائفي والقبائلي.
وإذا كان البرهان قد نقل الخلاف إلى العلن بالتشديد على أنّ «التحدي» الذي يعرقل الاتفاق الإطاري هو «دمج الدعم السريع في الجيش»؛ فإنّ أحد الجنرالات من أبرز أعوانه، ياسر العطا، طرق المسمار أعمق فصرّح بأنه «ليس هنالك دولة ديمقراطية حديثة محترمة بها جيشان»، ولم يحجم عن الإشارة إلى بعض الجوهر في صراع المصالح: «التهديد والتكسب السياسي والشخصي والاقتصادي لامتلاك جيش قد تؤدي إلى انهيار كيان الدولة السودانية».
صحيح أنّ منطق تغليب المصالح قد يحول في نهاية المطاف دون تفادي الصدام العسكري بين الجيش و«الدعم السريع»؛ الأمر الذي لا يلغي خلاصة مأساوية أخرى هي أنّ اتفاقهما لن يكون إلا على حساب الشعب السوداني، وخيانة آماله وتضحياته.
(القدس العربي)