حققت
الدراما التلفزيونية السوريّة كوسيط فني تقدماّ سباقاً، وهذا من خلال قدرتها على الوصول
لأكبر عدد من المتلقين، وتحقيق جماهيرية تجاوزت حدود سوريّة، وضمن هذا التقدم مرّت
بأطوار عدّة لتصبح اليوم بغالبيتها حرفة وصنعة قائمة على البيع والشراء، تمتلك سوق
إنتاج ذي معايير وشروط خاصة تغيّرت تبعاً لظروف متنوعة.
ضمن
عملية الانتقال هذه، استطاعت هذه الحرفة تقديم نموذج فني يمتلك مقولة وجماليات متفرد
بها وهو المسلسل الاجتماعي السوري، الذي بدأ يغيب عن الساحة في العقد الأخير، لتحل
محله
المسلسلات العربية المشتركة ودراما النجم وسلطة شركات الإنتاج، حتى صار من الصعب
إيجاد توصيف موحد جامع لهذه الأعمال المتنوعة اليوم بعيداً عن الشكل الفني الحرفي،
فاليوم غدت هذه الأعمال بمقولاتها المتنوعة بعيدة عن الواقع السوريّ أو تحاكيه بمبالغة
غروتسكية وكأنّ لحظة أو قرار قطيعة مع الدراما الاجتماعية حصل في فترة ما.
تطور
الدراما السوريّة
كانت
بداية الدراما السورّية كما نعرّفها اليوم بالمسلسلات عام 1960 مع تمثيلية "الغريب"
الذي كانت دراما تاريخية عن أحداث ثورة الجزائر من إخراج سليم قطايا، ولكن كان هنالك
تجارب درامية سابقة عبر الإذاعة التي قدمت مسلسلات إذاعية مسجلة، وعبر ما عرف بالتمثيليات
التلفزيونية في برنامج حمل عنوان "سهرة دمشق" الذي قدمه عدد من نجوم المسرح
المعروفين منهم رفيق سبيعي ودريد لحام ومحمود جبر. كانت التمثيليات والمسلسلات تعرض
مباشرة على الهواء دون تسجيل مسبق وكان القائمين عليها المسرحيين، غلب على هذه الأعمال
الأولى الطابع الكوميدي الساخر، وبدأت الدراما تصنع معالمها الخاصة في منتصف السبعينيات
مع مسلسل "أسعد الوراق" 1975 ومسلسل "راس غليص" وهو أول مسلسل
يتم تصويره خارج نطاق الأستوديوهات.
بدأ
قطاع الدراما يرفد بكوادر جديدة أرسلتها الحكومة للدراسة في الاتحاد السوفيتي ودول
أوروبا الشرقية نهاية السبعينيات، في ظل منتج وحيد للدراما وهو التلفزيون السوري، حيث
ظل الدراما متشاركة مع أشكال الفن والثقافة الأخرى في سوريّة حكراً على الدولة، إلا
أن ما ميز هذا القطاع وما جعله متنوع ومتغير وصولاً لدراما اليوم، هو قدرته على التلاعب
بآلية الاحتكار والرقابة الحكومية وصنع سوق إنتاج خاصة فيه في
سوريا ودول الجوار وتوسيعها
ليخرج من إطار الدولة ويصطدم مع نوع احتكار مختلف بشروط جديدة وهو سلطة شركات الإنتاج.
ولّدت
الحاجة الفجوة الأولى في احتكار الثقافة والفن ضمن سورية، حيث كان من المربح للتلفزيون
السوري عرض أي مسلسل يصور داخل سوريا، وعند دخول الشركات العربية الخاصة مثل شركة
"أرا" السعودية و "تلفزيون الأردن" الذين أنتجوا أجزاء من مسلسل
"مرايا" في الثمانينيات، قدم وقتها وزير الإعلام محمد سلمان مشروعا يقتضي
بأن يقدم التلفزيون السوري للشركات التجهيزات الفنية اللازمة للتصوير مقابل أن تقدم
نسخة من الإنتاج لعرضها في التلفزيون السوري، عرف هذا القرار ب (الإنتاج مقابل نسخة).
كانت
الشركات السورية الخاصة في تلك الفترة تقوم بتمويل الإنتاج وتنفيذه، إلا أن الكثير
منها كان "يستأجر المعدات والكاميرات المستخدمة من التلفزيون السوري أو أحد المديريات
التابعة له، بالإضافة إلى التصوير في استديوهاتهم، وتسجيل الصوت كان يتم في استوديوهات
الإذاعة السورية، وذلك بسبب التكلفة الباهظة لهذه المعدات، وكذلك فرض الكثير من الشروط
والقيود الجمركية على استيرادها والقانونية تبعاً لطبيعة الدولة الأمنية، وأيضاً الكثير
من هذه الشركات التي عملت حينها لم يكتب لها الاستمرار فعملت لبعض السنوات واختفت،
ما جعل الاستثمار في هذا النوع يحمل بعض الخطورة المادية."
لم يكن
من الممكن للاقتصاد السوري أن يستمر بانغلاقه لفترة طويلة، خاصةً بعدما شهدت الأعوام
بين 1980 و1985 ركوداً اقتصادياً كبيراً وانخفاضاً شديداً في سعر الليرة السورية
12 مرة، وتحمّل القطاع الحكومي الذي كان يحتل نسبة 80% من الاقتصاد خسارات فادحة احتاجت
معها الدولة لإعادة تنظيم القوانين الاقتصادية، وخاصةً تلك التي فرضت في السبعينيّات.
ومع انتهاء الحرب الباردة اتجهت الحكومة السورية نحو تعزيز دور القطاع الخاص وصدر قانون
الاستثمار رقم 10 لعام 1991 الذي سمح بدخول الشركات الخاصة الى السوق السورية، وقلل
الشروط والصعوبات على إنشائها، لكن الانتعاش الاقتصادي المرجو وزيادة عدد الشركات الخاصة
لم يبدأ حقاً حتى العام 2000.
ظهر
الإنتاج السورية "المستقل" أو القطاع الخاص مع "شركة شام" التي
امتلكها "باسم خدام" وهو ابن نائب الرئيس السوري "عبد الحليم خدام"،
حيث قامت "شام" بفتح المجال أمام التجارب الجديدة والمخرجين الجدد ومنهم
نجدت أنزور الذي قدمت كلاً من " أخوة التراب" و "نهاية رجل شجاع"
عام 1994 القائم على رواية حنا مينا، حيث صنع توجهاً جديداً في الدراما السورية إذ
بدأت بالخروج من أطر الكوميديا السورية المجتمعية لتدخل موضوع الحبكات الروائية التي
لم تخلو من السرد التاريخي والسياسي، ولم تقتصر على إشكاليات تخص المواطن السوري النمط،
فبدأت الأعمال التلفزيونية تنتشر خارج سورية وهذا بالتزامن مع انتشار الفضائيات.
تحولت
الدراما منذ التسعينات من إنتاج ثانوي إلى صناعة تمتلك سوقها الخاص وشروطها وعالمها
ودورتها الاقتصادية، حيث زادت عدد الشركات الإنتاجية وظهرت شركات مثل "حلب الدولية
للإنتاج الفني" و "شركة اليسار للإنتاج الفني" حيث بدأ الاستثمار الجدي
ووضع بنية تحتية لهذه الصنعة، فتم بناء مدن انتاجية واستديوهات تصوير ومراكز مونتاج،
ومن الملاحظ أن أغلب من قام على امتلاك وإدارة شركات الإنتاج هم أشخاص مقربين من السلطة
مثل باسم خدام مالك شركة شام للإنتاج التلفزيوني. بالإضافة لذلك دخلت الشركات العربية
عملية إنتاج المسلسلات السورية مثل شركة "مركز دبي للأعمال الفنية".
بدأت
الدراما في استقطاب الممثلين والكتاب من خريجي المعهد العالي، وبدأت تتوضح الفروقات
بين الإنتاج المحلي والعمل مع الجهات الخاصة سورية كانت أو عربية، حيث كان المردود
المالي للشركات الخاصة مجزياً أكثر، بالإضافة إلى الإهمال والفساد الكبير ضمن مؤسسات
الثقافة الأخرى من مسرح وسينما وصحافة وأدب فتوجه العديد من الكتاب للكتابة للدراما
أمثال الصحافي "حسن م يوسف" والكاتب المسرحي "ممدوح عدوان".
بيع
وشراء
امتلكت
الدراما التلفزيونية لعدة سنوات بعد الألفية الثانية مع مسلسلات الدراما الاجتماعية
مقولة واضحة وتوجه فني له ملامحه الخاصة، فكانت بعض الأعمال تتضمن افكارا اجتماعية
وسياسية، ودخلت على قلب حياة السوريين، أعمال مثل "أحلام كبيرة" و
"الانتظار" الذي قدم صورة عن عشوائيات سوريا، عن صراع القاع، عن الصراع العادي
الذي لم يكن معتاداً أن نراه على الشاشة، عن طبقة تشبه أغلب متابعي الدراما.
بدأت
المسلسلات تخرج من إطار الدراما التقليدية وتطرح صورة الإنسان العادي واشكالياته، قامت
أعمال أخرى بتقديم مقولة أوضح وطرح لمشاكل أعقد كما فعل مسلسل "السراب" مع
طرحه لإشكالية قوانين الأحوال الشخصية في سورية. لكن الفسحة التي خلقتها الشركات الخاصة
وتنوع مصادر الإنتاج، سرعان ما بدأت تمتلك شروطها ومعاييرها ورقابتها المختلفة عن رقابة
الحكومة والمتوازية معها، حيث بدأ السوق يتجه للكم وليس للكيف، وظهرت عدة ملامح لهذه
الفترة كالممثل النجم الذي تطلبه شركات الانتاج ويحقق تسويق للعمل وأصبح له سلطة من
نوع خاص لا تزال إلى اليوم موجودة، فمن الممكن أن يسمح الممثل النجم بإنتاج عمل أو
عدم انتاجه.
شهد
المسلسل السوري تراجعاً وتقدماً تبعاً للكثير من العوامل، فاغتيال رفيق الحريري عام
2005، جعل العديد من الدول تقاطع الإنتاج الدرامي السوري، وابتعد الشركات العربية عن
تمويل الأعمال السورية، وعام 2008 تأثرت أسواق الخليج بانهيار سوق العقارات الأميركية
فاتجهت لسلعة أقل تكلفة وأكثر رواجا وظهرت المسلسلات المدبلجة التي اكتسحت الأسواق
ونافست ما ينتج في سوريا.
بدأ
شكل المسلسل المتعارف عليه بسبب القواعد القديمة - مسلسل رمضاني ذو ثلاثين حلقة كل
حلقة تدوم مدتها لحدود الساعة- شكلاً قديماً وغير صالح، فبدأ رواج المسلسلات المقتبسة
من أفلام أو مسلسلات خليجية، مسلسلات تضم طاقم عمل عربي مشترك، تتخطى حدود الجغرافيا،
ما زاد الضيق أكثر على كتاب وصانعي الدراما السورية.
مع بدء
الربيع العربي وانطلاق الثورات، تأثر قطاع الدرامي السوري بشكل سلبي وعقدّ الوضع مشكلات
التسويق والإنتاج. حيث تنوعت مواقف العاملين ضمن قطاع الدراما وهاجر عدد كبير من الكتاب
والممثلين خارج سوريا إما لبلدان عربية أو أوروبية، بالإضافة للعقوبات والمقاطعة التي
واجهتها شركات الإنتاج السورية، فاختارت العديد من الشركات الهجرة ونقل عملها خارج
سوريا واستقرت في لبنان ودبي بشكل أساسي، وأصبحت العديد من الأعمال تصور خارج سوريا.
بدت
فروق واضحة بين الأعمال المنتجة في الداخل السوري المتبنية لسردية النظام والأعمال
التي تنتج في الخارج، وكل يتناول الثورة والحرب بمفهومه الخاص، بالرغم من كون الواقع
مشوش ومعقد والحرب مفجعة ومن الصعب تناولها ضمن عمل درامي، بالإضافة للمستهلك العربي
الذي تناول الدراما السورية كمادة للترفيه أصبح يرى أعمالاً تتناول قضايا هو بعيد عنها
كل البعد ولا يعرفها بصورة مباشرة.
في مقابل
هذا، زاد عدد المسلسلات العربية المشتركة وزاد استهلاكها ورواجها، وهذه المسلسلات التي
تعتمد بشكل أساسي على مبدأ دراما النجم والتي أصبحت معياراً يقاس بها نجاح مسلسل من
عدمه. وهذا في ظل اختفاء تدريجي للمسلسل الاجتماعي السوري، أو المسلسل الواقعي الذي
يحكي عن حياة الناس (الآن، هنا)، عن حياة من هم في سورية اليوم الذين تكلمت عنهم مسلسلات
سابقة وقدمتهم كما هم، بالرغم من كون الوضع السوري اليوم ساكن صامت بحاجة لقول، بحاجة
لأن ينطق، نرى المسلسلات حتى التي تنتج في الداخل السوري تتجه نحو نوع من الفانتازيا
والاثارة أو تقدم قصصا من آن مختلف.