كتاب عربي 21

هل انتهت الحرب الطائفية الباردة بين إيران والسعودية؟

يجسد الاتفاق السعودي الإيراني التحولات الجيوسياسية العميقة ببنية النظام الدولي- تويتر
شكلت الحرب الطائفية الباردة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية على مدى أكثر من أربعة عقود؛ السلاح المفضل لخوض الصراع والتنافس الجيوسياسي بين القوتين الإسلاميتين السنية والشيعية على الشرق الأوسط، في إطار لعبة الهيمنة والسيطرة على المنطقة، وأصبحت حروب الوكالة السمة الرئيسية لتسوية النزاعات وفرض النفوذ. وقد ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية بتعزيز وتغذية الخلافات والانقسامات الطائفية في المنطقة من أجل تحقيق مصالحها القومية، ولم تكن الطائفية سوى سلاح أيديولوجي وأداة سياسية رمزية تستخدمها كافة الأطراف في معركة النفوذ الجيوسياسية، تشتد وتنفرج مع تغير الظروف الاستراتيجية العالمية وتبدل السياسات المحلية.

يجسد الاتفاق السعودي الإيراني الأخير الذي جرى الإعلان عنه من بكين في 10 آذار/ مارس الجاري، في بيان مشترك أعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران وإعادة فتح السفارتين المغلقتين منذ 2016 في غضون شهرين، التحولات الجيوسياسية العميقة في بنية النظام الدولي، والذي لا ينفصل عن التحولات السياسية المحلية في إيران والسعودية. فتحول السياسات الدولية أثر بعمق على منطقة الشرق الأوسط، وكشف حدود سياسات اللعبة الطائفية كأداة في استراتيجيات الهيمنة والنفوذ.

فقد تبدل النظام الدولي من أحادية قطبية إلى نظام تعددي، ولم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تنفرد بصياغة واقع ومستقبل العالم، وباتت واشنطن تقر على مضض بصعود الصين كقوة عالمية منافسة إلى جانب روسيا وقوى إقليمية أخرى. ولم يكن للاتفاق بين السعودية وإيران برعاية صينية أن يمر دون موافقة ضمنية أمريكية، لكن الاتفاق بمثابة اعتراف أمريكي بتنامي دور الصين في المنطقة، دون أن يشكل ذلك بديلاً للدور الأمريكي.

جاء الاتفاق السعودي الإيراني بعد تبدل الأولويات الجيوسياسية الأمريكية وفقدان الشرق الأوسط أهميته الحيوية، وظهر ذلك من خلال انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، والحديث عن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ورغبة إدارة بايدن في إنهاء "الحروب الأبدية" على الإرهاب، وهو ما أجبر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على البدء في التفاوض مع إيران
فقدَ الشرق الأوسط أهميته منذ الإعلان الأمريكي عن تبدل الأولويات الاستراتيجية للأمن القومي بمواجهة التحديات التي يفرضها صعود الصين، واعتماد التحول نحو آسيا- المحيط الهادي إبان حقبة الرئيس أوباما، والتي تعززت خلال فترة ترامب وباتت راسخة مع حقبة بايدن. فقد أصبحت وثائق استراتيجيات الأمن الوطني الأمريكي ترتكز إلى أولوية التنافس مع الصين، ولم تعد منطقة الشرق الأوسط حيوية.

ففي مقابلة مع مجلة "ذي أتلانتيك"، عام 2016 دعا الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، الذي كان قد وقع اتفاقاً نووياً تاريخياً مع طهران عام 2015؛ السعودية وإيران إلى التغلب على خلافاتهما وإيجاد "طريقة فعّالة لمشاركة الجوار وإقامة نوع من السلام". وعندما انسحب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018 وفرض سلسلة من العقوبات على إيران، تنامى نفوذ إيران وأصبحت أكثر عدوانية وزعزعة لاستقرار المنطقة، ومع قدوم الرئيس جو بايدن عاد التفاوض حول اتفاق نووي مع إيران باعتباره أهم طريقة لتجنب مزيد من عدم الاستقرار الإقليمي، لكن إدارة بايدن تريد صفقة "أطول أمداً وأقوى".

جاء الاتفاق السعودي الإيراني بعد تبدل الأولويات الجيوسياسية الأمريكية وفقدان الشرق الأوسط أهميته الحيوية، وظهر ذلك من خلال انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، والحديث عن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ورغبة إدارة بايدن في إنهاء "الحروب الأبدية" على الإرهاب، وهو ما أجبر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على البدء في التفاوض مع إيران على أمل الحد من التوترات وكسب الوقت لبناء قدراتهما الإقليمية، حيث شرعت الدول العربية السنية في البحث عن بدائل واستراتيجيات جديدة لحماية مصالحها. فقد كانت تعتمد بصورة أساسية على الولايات المتحدة لاحتواء توسع نفوذ إيران الإقليمي، وهو توسع ساهمت واشنطن بقصد أو دون قصد بتناميه بزخم كبير عندما قامت بغزو العراق عام 2003، وعززت من توسع ونفوذ إيران في كافة تدخلاتها اللاحقة في المنطقة.

وقد فشلت الدول العربية السنية بالاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية في الحد من نفوذ إيران وتمددها، وخسرت كل المعارك وحروب الوكالة أمام القوة الإيرانية. وجاء دعم المعارضة السورية دون فائدة ثم تخلت عنها، وتخلت السعودية عن لبنان، وفشلت في الحصول على موطئ قدم في العراق، وتعثرت في الحرب في اليمن، وعززت كل تلك الجهود من نفوذ إيران في المنطقة.

في سبيل تهدئة المنطقة دعمت إدارة بايدن الحوار بين السعودية وإيران، لكن واشنطن لا تستطيع أن تقوم بدور الوسيط لعلاقتها السيئة مع إيران، ولذلك اضطرت إلى القبول بدور الصين، إذ لم تفلح جهود واشنطن بتقويض نفوذ طهران
في سبيل تهدئة المنطقة دعمت إدارة بايدن الحوار بين السعودية وإيران، لكن واشنطن لا تستطيع أن تقوم بدور الوسيط لعلاقتها السيئة مع إيران، ولذلك اضطرت إلى القبول بدور الصين، إذ لم تفلح جهود واشنطن بتقويض نفوذ طهران. فبعد سنوات من الحروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة أصبحت إيران أكثر قوة، ولم تنجح الإجراءات السعودية والإماراتية الداعمة للعقوبات الأمريكية بتقويض الاقتصاد الإيراني، ولم تتمكن من منع الهجمات الإيرانية داخل الأراضي السعودية والإماراتية. ولذلك، يشكل الاتفاق حدثاً مهماً للحد من التوترات في المنطقة، وهو مطلب مشترك لأمريكا والصين، وهو حيوي للسعودية وإيران، فالسعودية تريد أن تضغط إيران على الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن ووضع حد لهجمات الطائرات المسيرة على أراضيها، وأما إيران فتريد الخروج من عزلتها والحد من أزمتها الداخلية.

رغم أهمية دور التغيرات الجيوسياسية الدولية بالتوصل إلى اتفاق بين السعودية وإيران، فقد لعبت التحولات السياسية المحلية دوراً مهماً، وأدركت السعودية وإيران أن الصراعات الجيوسياسية الإقليمية أدت إلى تفاقم المشكلات الداخلية، وقادت إلى اختلالات بنيوية، وحفزت الحركات الاحتجاجية وغذت الجماعات المتطرفة، وتحولت الطائفية من أداة لزيادة النفوذ والهيمنة إلى مشكلة تعزز الانقسام والتطرف.

فرغم أن التنافس بين الشيعة والسنة له جذور تاريخية، إلا أن الخلاف اليوم لا يتجذر في مجال الأيديولوجيا والعقيدة الدينية بقدر ما هو متجذر في الصراع الجيوسياسي على السلطة والنفوذ، وظهر ذلك بجلاء بعد الغزو الأمريكي للعراق، وهو ما سمح لإيران بتوسيع نفوذها بشكل كبير في العالم العربي، من خلال استثمار اللعبة الطائفية لتمكين شبكة من الوكلاء المسلحين سرعان ما تمددت من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن، على خلاف السعودية التي فشلت في الحرب الطائفية الباردة، وهو ما تكرر بعد ثورات الربيع العربي، فللحفاظ على الأنظمة الاستبدادية ومواجهة المطالب الديمقراطية قادت السعودية قاطرة مقاومة التغيير من خلال استخدام سلاح الطائفية، ومرة أخرى زادت إيران من نفوذها على المنطقة.

تعود جذور الحرب الطائفية الباردة بين السعودية وإيران إلى الاختلال الكبير الذي حدث بعد حصار المسجد الحرام في السعودية، ففي 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، بعد 10 أشهر فقط من الثورة في إيران، استولت جماعة سلفية وهابية بقيادة جهيمان العتيبي على المسجد الحرام في مكة المكرمة، بهدف إنهاء حكم آل سعود بحجة عدم الالتزام بتطبيق الشريعة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الطائفية السلاح المفضل لإيران والسعودية، في كافة المنابر المسجدية وفي كافة وسائط الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي الجامعات والمدارس، والمناهج الدراسية، والرسائل الجامعية، وطبعت آلاف الكتب والرسائل حول كفر الشيعة من طرف السعودية، وكفر الوهابية من طرف إيران.

عقب عدة عقود من الحرب الطائفية الباردة، باتت السعودية وإيران أكثر إدراكاً للعواقب الوخيمة للسياسات الطائفية، وقد كان للعوامل الداخلية أهمية بالغة في ظل التحولات الديمغرافية والهبة الشبابية في كلا البلدين المتزامنة مع اتساع نطاق التعليم وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وبروز جيل ينشد الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

فعندما أُعلن في 11 شباط/ فبراير 1979، عن انتصار الثورة في إيران بعد نحو ثمانية عشر شهراً من المظاهرات، كانت التوقعات لا حد لها بتأسيس نظام يقوم على أسس أكثر عدالة وحرية واستقلال. فقد وعدت الثورة بتحقيق ثلاثة أهداف: العدالة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية، والاستقلال عن وصاية القوى الغربية العظمى، ثم تكشفت الثورة عن استبدال طبقة بطبقة جديدة من رجال الدين تلاعبت بخطاب الطائفية لترسيخ حكمها ومصالحها، الأمر الذي أدى إلى موجات احتجاجية للإصلاح النظام.

وتأتي موجة الاحتجاجات الأخيرة في سياق سلسلة طويلة من الفعاليات والأنشطة والتظاهرات المناهضة للنظام في إيران، ومن أبرزها موجة الاحتجاجات والمظاهرات المليونية عام 2009، على خلفية التزوير الفاضح لنتائج الانتخابات الرئاسية، والتي قوبلت بقمع واعتقال قادة الحركة أمثال مير حسين موسوي ومهدي كروبي. وشهد عام 2019 موجة احتجاجات واسعة عقب قرار الحكومة برفع أسعار البنزين، قوبلت بأشد أصناف القمع وحشية، حيث قتل "الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني وقوات الشرطة أكثر من 1500 شخص. ومع ذلك فإن موجة الاحتجاجات الأخيرة تعتبر استثنائية ومغايرة، فهي ليست كسابقاتها التي استندت إلى أسباب سياسية أو اقتصادية، بل لأسباب تتعلق بالمبادئ الجوهرية الدينية لتي يدعي النظام حراستها وصيانتها، وخلال الاحتجاجات الأخيرة أُطلقت هتافات مناهضة لنظام الجمهورية الإسلامية، ومزق المحتجون صوراً للمرشد الأعلى علي خامنئي ولمؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله روح الله الخميني.

أما في السعودية فقد شهدت المملكة تغيّرات اجتماعية ملحوظة، منذ أن اعتلى الملك سلمان العرش في عام 2015، ولا سيما منذ أن أصبح نجله محمد بن سلمان ولياً للعهد في عام 2017، حيث كان الموضوع الأساسي للتغيير السياسي في السعودية هو زيادة النزعة القومية وتخفيف النزعة الدينية، وقد توجت سلسلة من التوجيهات والاجراءات الصارمة بتقليص نفوذ السلفية الوهابية بتغيير سردية تأسيس وبناء المملكة السعودية في 27 كانون الثاني/ يناير 2022، عندما أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتبار يوم 22 شباط/ فبراير يوماً وطنياً يحمل اسم "يوم التأسيس". ويصادف هذا اليوم ذكرى "بدء عهد الإمام محمد بن سعود وتأسيسه للدولة السعودية الأولى"، والتي تأسست، بحسب الأمر الملكي، في شباط/ فبراير 1727.

ويشكل هذا الحدث أهمية سياسية كبيرة كونه يشير إلى القطيعة الجذرية مع الوهابية ونفوذها السياسي الذي أضفى شرعيةً للمشاريع السياسية السعودية المتعاقبة منذ عام 1744. فاختيار عام 1727 بدلاً من 1744 عاماً تأسيسياً للدولة لا يعني فقط الانفصال عن أسطورة الوهابية السياسية، بل يؤسس أيضاً لأسطورة سياسية جديدة، فقد جرى التخلي عن سردية التحالف الديني السياسي التاريخي بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود، في تأسيس المملكة، وأصبحت الوهابية حادثة فرعية داخل سردية القومية السعودية.

الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية يشير إلى إرهاصات تحول النظام العالمي من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية، وإلى فشل الولايات المتحدة وحلفائها من الأنظمة العربية السنية بالحد من نفوذ إيران في الشرق الأوسط، بل إن السياسة الأمريكية المدعومة من السعودية كان لها الدور الأكبر في توسع وتمدد نفوذ إيران في المنطقة
إذا كان التحالف بين بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود، قد تم تجاوزه في السردية السعودية الجديدة، فإن التحالف الآخر بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية لا يزال صامداً رغم تصدعه. وقد عُقد هذا التحالف بعد أن التقى الرئيس فرانكلين روزفلت بالملك عبد العزيز بن سعود على متن البارجة الأمريكية كوينسي في قناة السويس في 14 شباط/ فبراير 1945، ونص على أريعة بنود؛ أبرزها أن توفر أمريكا الحماية غير المشروطة لآل السعود والمملكة بشكل عام مقابل ضمان الرياض إعطاء الحصة الأكبر من إمدادات الطاقة لأمريكا، ورغم الإصرار على تجديد التحالف، فإن اقتراب السعودية من الصين يعبر عن بحث سعودي عن بدائل أخرى.

خلاصة القول أن الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية يشير إلى إرهاصات تحول النظام العالمي من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية، وإلى فشل الولايات المتحدة وحلفائها من الأنظمة العربية السنية بالحد من نفوذ إيران في الشرق الأوسط، بل إن السياسة الأمريكية المدعومة من السعودية كان لها الدور الأكبر في توسع وتمدد نفوذ إيران في المنطقة، وقد ظهر بوضوح أن إيران كانت أكثر براعة في استخدام سلاح الطائفية في اللعبة الجيوسياسية، لكن ذلك في نهاية المطاف أدى إلى إدراك البلدين أن سياسة الحرب الطائفية الباردة أدت إلى خلق مشاكل داخلية عميقة تتجاوز المكاسب الجيوسياسية الإقليمية، رغم تفوق إيران في حسابات الكلفة والمنفعة.

ويبدو أن النزعة البراغماتية المحسوبة تغلبت في النهاية على الرؤية السعودية، ومن المبكر الحكم على ديمومة الاتفاق بين السعودية وإيران، ووضع حد للحرب الطائفية، إذ يبدو أن الاتفاق يقع في الإطار التكتيكي، لكن ذلك قد يتحول إلى المجال الاستراتيجي، إذ صدقت تغريدة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، التي جاء فيها أن دول المنطقة "تشترك في مصير واحد".

twitter.com/hasanabuhanya