الأوسلويون يعودون إلى نهج الانتفاضة والانتظام فيها ثانية.. حاولت السلطة الفلسطينية مع التوقيع على اتفاق "واي ريفر" عام 1998، والذي يشمل الإدماج العضوي للمخابرات المركزية الأميركية (C.I.A) في ترتيبات أوسلو الأمنية.. حاولت أن تُجهز على ظاهرة
المقاومة المسلحة التي تقودها حركة
حماس.
فمع نهاية صيف عام 2000 كان قد وقع في قبضة أجهزة امن السلطة آخر مطاردي كتائب القسام الكبار: محمود أبو هنّود (في الضفة الغربية) ومحمد الضيف (في قطاع
غزة). غير أنه لم تلبث "
انتفاضة الأقصى" أن اشتعلت بعد انهيار مسار مفاوضات الحل النهائي في "كامب ديفيد الفلسطينية – تموز 2000".
رغم سنوات أوسلو الست الأولى العجاف وعراقيلها، بقي الفعل الانتفاضي منداحًا، وبالفعل كان
عرفات قد أخذ قراره باللجوء إلى الانتفاضة والعودة إليها بعدما كان حاول قطع طريقها، وهذا ما تشير إليه الكثير من الوثائق والمواقف الموثّقة والمنقولة عنه، ومنها على سبيل المثال، ما نقله الصحفي الفلسطيني الشهير عبد الباري عطوان في مذكراته "وطن من الكلمات" عن فحوى لقاء جمعه بياسر عرفات عام 1999 (أي قبل عام من انتفاضة الأقصى) في مطار هيثرو في لندن، بناء على طلب واستدعاء الأخير، وكان عرفات أسرّ له بالكتابة على ورقة جانبية – حتى لا يُسجّل على نفسه التفوّه بكلمات - بأنه وصل إلى استنتاج أكيد، وكتب على الورقة حرفيًا عبارة: "لا حل إلا بالانتفاضة"، وأراد عرفات بهذا السلوك إشهاد عطوان بوصفه مراقبًا فلسطينيًّا مهمًّا على موقفه ونيّته!
وبالتالي فالانتفاضة (انتفاضة 1987) التي تم التوقف عنها من طرف فلسطيني واحد، أُعيد الاعتبار لها ثانية من قبل من أوْقَفها تحديدًا (وسمعنا حينها بعض الأوسلويين العصبويين وهم يضيقون بفرقائهم قائلين: لا نريد سماع من يقول لنا: ألم نقل كم؟!) واضطرّت حركة فتح التي تربطها بالشارع روابط عميقة إلى استعادة حضورها المقاوم الذي كانت قد غادرته، بالمسمّى الجديد الذي فرضته "انتفاضة الأقصى": (كتائب شهداء الأقصى).
كان عرفات قد أخذ قراره باللجوء إلى الانتفاضة والعودة إليها بعدما كان حاول قطع طريقها، وهذا ما تشير إليه الكثير من الوثائق والمواقف الموثّقة والمنقولة عنه
ورأى عديد من قيادات وكوادر فتح في هذا الإطار الجديد كرافعة ميدانية وتنظيمية وحركية وشعبية لحركة فتح كي تتكافأ وتتوازن مع الأجنحة العسكرية للتنظيمات والفصائل الأخرى المنافسة، والتي كانت تطوّرت وتدحرجت من مكونها الجنيني في انتفاضة 1987: القوات الضاربة، والسواعد الرامية. ويعود الفضل لهذه الكتائب في أنها حافظت على اسم حركة فتح كحركة وطنية مناضلة في مرحلة كان يمكن أن يتم تجاوزها، خاصة وأن نضالية منافسيها الإسلاميين المتدحرجة والمتصاعدة من انتفاضة 1987 كانت مرتفعة وقطعت شوطًا طويلًا. ورغم عدم التبنّي الرسمي من لجنة فتح المركزية لهذا التشكيل (كتائب شهداء الأقصى)، إلا أنه حظي برعاية تنظيم الداخل الممثّل بـ"اللجنة الحركية العليا"، والذي كان يحدب عليه عرقات من خلال رعايته لأمين سرّها مروان البرغوثي. وهذا ما كان سجّله أحد قيادات فتح الميدانية المناضل "أبو علاء منصور – محمد يوسف" في كتابه "رحلة لم تكمل".
وعندما عاد الفعل الانتفاضي هذه المرّة، عاد بحركية عالية، بسبب توفر أدوات قتال جديدة لم تكن متوفرة أو شائعة التداول في سنوات انتفاضة 1987 الأولى، وكان تساءل كثيرون في أول شهرين من "انتفاضة الأقصى": أين هم رجال حماس؟
بعيدًا عن الشكوك الأولية التي انتابت الإسلاميين حول مغزى النقلة التحوّلية في سلوك فتح وسلطتها (التي كان وثّق بعضها أبو علاء منصور)، فقد كان كادر حماس القيادي العسكري والميداني الأهم متواجد في سجون السلطة، ومع إخراج عرفات عن هذا الكادر في شهور انتفاضة الأقصى الأولى، حتى أخذ فعل الدحرجة الانتفاضي باستئناف وتائره التي سيُضاف إليها "إبداعات" جديدة التي كان أهمها اختراع صواريخ القسام التي بدأت بسيطة ساذجة وذات جدوى إعلامية أكثر من جدواها القتالية، غير ان هذه الإمكانية تدحرجت شيئًا فشيًا على صعيد الكمّ والنوع والمدى والدقة، حتى بلغت ما بلغته هذه الأيام، فقد وصل مداها في تجارب الإطلاق المسجّلة في السنين الأخيرة إلى المياه الإقليمية اليونانية، كما بلغ مرمى "صاروخ العياش" وهو احدث صاروخ طوّرته واستخدمته كتائب القسام في معركة "سيف القدس 2021" مئتين وخمسين كيلومترًا.
مقاومة قطاع غزة: نموذج الانتفاضة المستمرة
منذ "انتفاضة الأقصى" بالإمكان ملاحظة أن قطاع غزة؛ ورغم الظروف السياسية التي مرّ بها (خروج الاحتلال عام 2005، فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي 2006، أسر الجندي جلعاد شاليط، ثم ما تبع ذلك "حسم عسكري- حسم ازدواجية السلطة 2007"، ثم حروب غزة المتتالية، ثم صفقة تبادل الأسرى الكبيرة 2011، بالإضافة إلى مسيرات العودة الكبرى...) إنما يعكس في الحقيقة حالة انتفاضة مستمرة!! طبعًا هناك من يجادل في أن قطاع غزة لا يعيش حالة صدام أو اشتباك يومي مما لا يسمح معه بالقول بأن هناك حالة انتفاضة مستمرة! (والنقاش هنا شبيه بمثيله في الساحة اللبنانية، التي يحاول فيها البعض حشد الحجج لسحب البساط من حزب الله لإصراره على تعريف وجوده المتعلق بالصراع مع الكيان الصهيوني بأنه: مقاومة!)
نعم، لا يوجد هناك فعلًا اشتباك يومي، ولكن ما الذي يوجد في الممارسة اليومية في قطاع غزة مما يجعله هدفًا للحصار الخانق لدرجة تجعله مكانًا غير صالح للحياة وطاردًا للسكان!؟ قبل الإجابة، لا بأس من الإلماح إلى قواعد الاشتباك الجديدة بعد خروج الاحتلال من قطاع غزة عام 2005.
عندما كان الاحتلال جاثمًا على الأرض بصورة مستوطنات ومعسكرات للجيش ونقاط وحواجز تفتيش، كان الفعل الانتفاضي المقاوم يستهدفها مباشرة، وبسبب كثافة ذلك الاستهداف أصلًا، أُجبر الاحتلال على الخروج من قطاع غزة، رغم ما قيل عن حجج، أو حِيَل أو خطط أو مآرب صهيونية أخرى وقفت وراء الخروج من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. وقام الاحتلال، كما فعل بالضبط عندما انسحب من جنوب لبنان عام 2000 ببناء خط حدودي (الخط الأزرق) أخذ صيغة عسكرية أكثر منه صيغة سياسية! خاصّة أن خطة الانسحاب صدرت عن الجيش الذي قام باعتمادها وإنفاذها تقول فحواها: هذا الخط هو "خط جبهة قتال" بيننا وبينهم، نحن هنا وهم هناك! واعتبر الاحتلال أن أي مسّ بهذا الخط الحدودي لا يعني إلا إعلان حرب من الطرف الآخر، وهذا ما كان وقع في حرب 2006 التي الجبهة الفلسطينية "أمطار الصيف" في أعقاب عملية المقاومة عبر الحدود التي أسفرت عن أسر الجندي جلعاد شاليط، وعلى الجبهة اللبنانية "حرب لبنان الثانية – حرب تموز 2006" في أعقاب عملية المقاومة اللبنانية أيضًا التي أسفرت عن أسر ثلاث جنود مصابين، وفي مثل هذه الحالة والوضعية فإن قواعد الاشتباك قد تغيرت جوهريًّا، حيث تعذّر الاشتباك الجسدي المباشر بعد الانسحاب وترسيم خط او جدار حدودي. وأخذ أي نوع من الاشتباك يأخذ صورة إطلاق القذائف والصواريخ وهي صورة أعمال حربية أكثر مما هي اشتباك موضعي، وحسب سياقات الإطلاق عن بعد، فقد كان يؤدي تراكمها في الحالة الغزِّيّة إلى اشتعال حرب! ولكن هناك من لا يرى في الحروب (أو في الحرب بين الحروب) في الحالة الغزِّيّة، حالة يمكن أن نسمّيها: انتفاضة مستمرة! بل هناك من المراقبين الفلسطينيين (والغريب ان لبعضهم صفة اكاديمية: مدراء مراكز أبحاث وأساتذة جامعيون... إلخ) لهم موقف نقدي من مقاومة غزة، يصعب فهمه من دون أن يكون مُسيّسًا، فربما يرجع بشكل أساسي منه لهوية مقاومة غزة الأيديولوجية، وفي جزء آخر بسبب تبرير هؤلاء النقّاد لمواقفهم وخياراتهم التي تُحرجهم فيها مقاومة غزة، فهم يَصِفُون مقاومة غزة تارة بأنها فئوية، أو دفاعية لا تسمح لها إمكانياتها ولا تحالفاتها بالتحرير الجدي تارة أخرى، أو هناك من رجمها بأنها "مقاومة" تسعى للحفاظ على سلطتها وخدمة أجندتها الداخلية وتوسيع نفوذها أكثر من سعيها للهجوم والمبادرة والتحرير، أو أنها تدخل معركة لوقت محدود ثم تتبعها تهدئات لأوقات طويلة... إلى غير ذلك من الادّعاءات التي لا تريد أن ترى أن هناك مقاومة يأخذ مؤشر تطوّرها بالتصاعد الثابت منذ ابتدأت في الأيام الأخيرة من عام 1987.
نجحت المقاومة في طرد الاحتلال عام 2005، ونجحت في العام 2005-2007 في إزالة العوائق الداخلية التي يمكن أن تكبّلها وتغلّها
والبحث هنا ليس لمناقشة تلك الحجج، ولكن لا بأس من تقرير الحقائق من وجهة نظر مقاومة غزة التي تقول بأنها نجحت في طرد الاحتلال عام 2005، ونجحت في العام 2005-2007 في إزالة العوائق الداخلية التي يمكن أن تكبّلها وتغلّها، كما هو حاصل في الضفة الغربية بعد هذا التاريخ، وإن هذه المقاومة نجحت وتنجح، بل تفاجئُنا بإبداعاتها. فإن كان الاشتباك الميداني اليومي متعذّر لأسباب موضوعية ناشئة في إثر انسحاب الاحتلال، فإنها تعمل يومًا يومًا على حفر الأنفاق، كما تنهمك يومًا يومًا في تدريب وتجنيد – لا أقول المجتمع الغزِّي بأجمعه – بل عشرات الآلاف من رجاله وشبّانه في مختلف حقول وميادين المواجهة، كما أنها تصنّع سلاحها وعتادها وذخائرها "يوما يوما" ويدخل في ذلك صناعة غواصات بدائية للتعامل مع البحر ومسيّرات للتعامل مع الجو وهي كذلك في الحرب السيبرانية والاستخبارية وينظر لها كجهة مُهابة دوليًّا في هذا الجانب.
وبهذا المعنى، فإن المقاومة وممارستها اليومية ليست محصورة بالضرورة بصورة الصدام المادي المباشر (Clash) إنما هي أوسع في دلالتها من هذا المعنى الحصري، إنه ذلك التراكم، والتراكم الحقيقي، لعناصر القوة المادية المباشرة المتاحة، الذي نراه متجسدًا وكاشفًا عن وجهه السافر في المواجهات والحروب عندما كانت تأتي تلك الحروب. وكان حينها يفاجئنا - ذلك الجهد المتراكم – بدرجة جدّيته العالية والملفتة، ربما التي كان يتوقعها القريب قبل البعيد حتى غدت غزة اليوم، كأول أرض فلسطينية يُقام فيها ملاذ آمن، رغم ما يحيط به من حصار خانق وتضييق! وبالتالي فإن هذه المقاومة التي حرّرت قطاع غزة لم تعد أجندتها حبيسة قضايا قطاع غزة حصرًا – كما ذهبت التحليلات الرغائبية التي تسيء الظن في مقاومة غزة – بل ومنذ 2019، عند تدخلّها الأول، الذي ألقى بثقله في الانتصار للأسرى الذين تم قمعهم بوحشية في سجنيْ النقب وريمون، وانتصرت حينها لمطالب الأسرى، ونجح الموقف المساند هذا في انتزاع الأسرى ونيلهم حق استخدام الهاتف العمومي، وكان مغزى هذا التدخل من غزة، ولا يزال، يعتبر سابقة بالنسبة للحركة الأسيرة وهي تخوض نضالاتها عندما توفر لها ولأول مرة في تاريخها ظهير نضالي مقاوم من الخارج مستعد لإنجادها في اللحظات الحرجة، ثم جاء تدخلها الكبير في أيار 2021 من بوابة القدس التي تطلّ على العالم – وليس على أزقة غزة – والتي لا تزال متوالياتها على مائدة المشتغلين بالسياسة والاستراتيجيا في منطقتنا والعالم.
وكان تعبير بنيامين نتنياهو، قبل عدة سنوات، كاشفًا عن انقلاب المعادلة مع مقاومة قطاع غزة، عندما وصف العلاقة بـ"تبادل اللّكمات"! ولكن الفارق أن قطاع غزة في السنين الأخيرة لم يعد المتلقي التلقائي وحقل الرماية لتدريب الطيارين وجنود المدفعية و"ملطشة" كلما حلا لهم ضربه ضربوه وأرهبوه، بل غدت مقاومة غزة المتطورة هي من تبادر بتوجيه اللكمة في السنين الأخيرة. كما غدت حكومات تل أبيب وجيشها يتهيّبون المواجهة ويحسبون لها كل الحساب وتسعى أيضًا لتوسيط الوسطاء من أجل تجنّب أي مواجهة غير مرغوبة بالنسبة لها، ولم يعد الكيان الصهيوني مطلق اليدين – كما في السابق – سواء تعلّق ذلك بسياسة الاغتيالات أو الاجتياحات أو الاختراقات. كما أصبح الوجود العسكري والأمني، بل والاستيطاني في محيط قطاع غزة في وضعية دفاعية حذرة ويعمل بشروط تموضع جديدة.
ومن الملفت أن قيادة مقاومة قطاع غزة التي يقف على رأسها عسكريًّا الأخ المجاهد محمد الضيف وسياسيًّا الأخ المجاهد يحيى السنوار، وجميع الرجال الذي صنعوا التجربة من الإخوة الشهداء أو الأحياء منحدرون جميعًا، وبشكل متّصل، من انتفاضة 1987 فهم من تربتها وعجينتها ونسيجها.