في لقاء تلفزيوني قديم على القناة الثانية
المغربية (وهو موثق وموجود
على منصة اليوتيوب)، حكى الدكتور عبد الكريم الخطيب الذي شغل منصب وزير الشؤون الإفريقية
بالحكومة المغربية في الفترة (1961- 1963) قائلا: "في يوم من الأيام
زارني شخص لم أكن أعرفه وهو نيلسون مانديلا. طلب مني ترتيب لقاء مع الملك فسألته
عن الهدف من الزيارة. أجاب بأن لديه بعض الطلبات كان يود تقديمها إليه: مالا وسلاحا وتدريبا عسكريا. حولت طلبه للحسن الثاني، فحملني الرسالة التالية إليه: كل طلباتك
مقبولة. سلمني خمسة آلاف جنيه إسترليني وهو مبلغ كبير وقتها. أعطيتها إياه وأخبرته
أني لن أطلب وصلا، لكني أطلب منك استخدام هذا المال لتحرير بلادك. اتفقنا على
إرسال السلاح له عبر دار السلام في تنزانيا، ومنها تقل طائرة مغربية جنوده للتدريب
بالأراضي المغربية".
سنوات قليلة قبلها، وقف الزعيم الجنوب الإفريقي، وهو يحتفل بالذكرى
الأولى لانتخابه رئيسا أمام جمع غفير من أنصاره وضيوفه، ليتحدث خارج النص المكتوب
ويقول: "عبد الناصر، هايلي سيلاسي، لا أحد منهما حي اليوم. أما جوليوس نيريري
وكينيث كاوندا فهم أحياء. هؤلاء هم الرجال الذين جعلوا ممكنا إطلاق كفاحنا المسلح
الذي ساهم، بشكل فعال، في تحريرنا. لكن هناك شخص آخر تكبد عناء سفر طويل ليلتحق
بنا هنا في هذه الاحتفالية. إنه الدكتور الخطيب من المملكة المغربية. أرجو منكم
تحيته مجددا. زرت بلاده في العام 1962 وطلبت منه ترتيب لقاء بالملك".
الرومانسية السياسية فقدت أي تأثير ممكن في تخفيف حدة الخلافات بين البلدين بعد أن تحولت فعليا لعقيدة لا يمكن تحريكها إلا بحرب أو مناوشات لا أحد يمكنه التنبؤ بمداها.
تعانق الرجلان، واسترسل نيلسون مانديلا في الحديث عن زيارته للمغرب
وقتها، ولم يختلف حكيه عمّا ذكره الخطيب، الذي كان يومها متأنقا في لباسه المغربي
التراثي، إلا في تفصيل "بسيط" لكونه كان ردة فعل بعدية وآنية على
الخطاب. يحكي الدكتور الخطيب أن من بين الحضور في بريتوريا وزراء ومسؤولون
جزائريون لم يعجبهم ما بدر عن الزعيم الجنوب إفريقي بالنظر إلى ما
"يدّعونه" من كونهم الداعم الأساسي لكفاح الجنوب إفريقيين من أجل التحرر
من نظام الميز العنصري.
لا ينكر أحد أن نيلسون مانديلا التقى ببعض كوادر حركة التحرير
الجزائرية في العام 1962 في إطار جولة شملت عددا من الدول الإفريقية ومنها تونس
والمغرب باعتبارهما دولتان مستقلتان. لقاء مانديلا مع الجزائريين تم بداخل معسكرات
التدريب التي وفرها المغرب للثوار الجزائريين والأفارقة ببركان وجرسيف وازغنغن،
كما تشير إليه مذكرات باليد خطها الرجل وقدمتها عدد من الأفلام الوثائقية المؤرخة
للحدث، كما وثقتها صور فوتوغرافية تظهره بجانب كل من أحمد بن بلة وهواري بومدين
ومحمد بوضياف واوغيستينو نيتو من أنغولا وأميلكار كابرال من غينيا وكلهم صاروا
رؤساء لبلدانهم بعد الاستقلال.
التدريب العسكري والاحتكاك بالثورة الجزائرية من خلال معسكراتها داخل
الأراضي المغربية، لم ينفعا نيلسون مانديلا، فقد اعتقل الرجل أشهرا قليلة بعد
عودته من رحلته الخارجية ليقضي ما يقارب ثلاثة عقود في السجن، وإن نُقِل عنه قوله:
إن ذاك الاحتكاك جعل منه رجلا، وهو ما ذكّر به الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون
خلال افتتاح ملعب براقي الذي يحمل اسمه قبل أيام.
بعد اعتلائه سدة الحكم بالبلاد، وبعد زيارات خص المغرب بها، صار
الزعيم الإفريقي أكثر التزاما بالنص المكتوب ومعه لازمة التذكير بحقوق "الشعب
الصحراوي" ونضاله من أجل الحرية التي أصبحت تشكل عنصرا مركزيا فيها. مانديلا
أعاد التذكير بضرورة الكفاح من أجل "تحرر الصحراء الغربية" من فوق منصة
الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وتحول، بقدرة قادر، إلى مساند للطرح الانفصالي،
وفق خطاب معادٍ للوحدة الترابية للمملكة المغربية.
ليس غريبا إذن أن يسير الحفيد زويليفليل مانديلا على درب السلف، وهو
الشخصية النكرة الذي لا يذكر له، خارج انتمائه الأسري، من سيرة. زويليفليل، اُستقدِم للحديث خلال فعاليات افتتاح كأس إفريقيا
للمحليين المنعقدة بالجزائر، دون أية صفة رسمية أو تنظيمية تخول له الحديث. فإذا
كان رئيس الوزراء الجزائري ومعه رئيس الإتحاد الكروي المحلي ورئيس الاتحاد
الإفريقي للعبة يملكون الصفة، فخطاب مانديلا الصغير صوت نشاز. ولأن النشاز لا يولد
إلا نشازا، فقد خرج الحفيد عن النص في تظاهرة رياضية وصار يدعو لل"قتال في
سبيل تحرير الصحراء الغربية من القمع"، باعتبارها "آخر المستعمرات في
إفريقيا".
خطاب زويليفليل ليس جديدا ولا قيمة له، وإن أعادت الجزائر، يوما بعد
الافتتاح، تدويره عبر حوار بثته على قناتها الإخبارية الدولية. لكن الدعوة للقتال
والحرب تأتي في إطار استراتيجية تواصلية جزائرية زادت حدتها في التصاعد منذ حوار
الرئيس عبد المجيد تبون مع جريدة لوفيغارو الفرنسية، وهو ما أكده مرة أخرى في
اجتماعه الأخير مع الولاة حيث قال إن الجزائر "لن تتخلى عن القضية الصحراوية
مهما كان الثمن"، "مخيرا" الصحراويين بين الانتساب للمغرب أو
موريتانيا، غير ذلك لن يكونوا أبدا جزائريين.
وإذا كان السباق نحو التسلح بين البلدين قد وصل مداه هذه السنة،
بتخصيصهما ميزانيات دفاع غير مسبوقة (23 مليار دولار قبل "تقليصها" إلى
18 مليار بالنسبة للجزائر، و9 ملايير دولار بالنسبة للمغرب)، فإن التحركات الأخيرة
التي وإن تميزت بإلغاء المناورات العسكرية المشتركة بين الجزائر وروسيا، بضغط
أمريكي على ما يبدو، تشي بأن القادم لن يحمل خير للمنطقة كلها.
رئيس أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة سيحل بالعاصمة الفرنسية
نهاية الشهر الجاري في زيارة لم تحدث مند عقدين، في ظل أزمة تتفاقم بين باريس
والرباط الرافضة لاستقبال ماكرون وهو المعتاد على أن تفتح له الأبواب. بالمقابل،
أشارت أخبار عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية تشييد قاعدة صناعية عسكرية
بالصحراء المغربية رداً على خطة روسية بإنشاء قاعدة لوجيستية كبيرة بحثا عن منفذ
دائم للدول الواقعة جنوب الصحراء. أما التعاون العسكري بين المغرب وإسرائيل فماضٍ
في التوسع ليشمل مجالات الدفاع الجوي والحرب الإلكترونية، كما أشار إليه بلاغ
للقيادة العامة للقوات المسلحة الملكية بخصوص مجريات الاجتماع الأول للجنة تتبع
التعاون البيني في مجال الدفاع. يأتي كل هذا وسط أنباء رسمية وشبه رسمية عن تثبيت
أنظمة دفاع جوي مع السعي لتطوير القدرات العسكرية البحرية من هذا الجانب أو ذاك.
إذا كان السباق نحو التسلح بين البلدين قد وصل مداه هذه السنة، بتخصيصهما ميزانيات دفاع غير مسبوقة (23 مليار دولار قبل "تقليصها" إلى 18 مليار بالنسبة للجزائر، و9 ملايير دولار بالنسبة للمغرب)، فإن التحركات الأخيرة التي وإن تميزت بإلغاء المناورات العسكرية المشتركة بين الجزائر وروسيا، بضغط أمريكي على ما يبدو، تشي بأن القادم لن يحمل خير للمنطقة كلها.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن رغبة المغرب في إنهاء موضوع الصحراء لا
تقل البتة عن عزم الجزائر عدم التخلي عن "القضية" الصحراوية، مهما كلف
الثمن، وأن سعي النظام الجزائري لتثبيت سلطته عبر تكريس العهدة الثانية للرئيس
تبون، والذي ظهر جليا في خنق كل صوت معارض لنهج السلطة من مرشحين سابقين للرئاسة
وصحفيين ومنظمات حقوقية، فإن مستقبل العداء المستحكم بين البلدين، اللذين لم يعد
يجمعهما من الجيرة غير حدود ملتهبة قابلة للانفجار في أي لحظة، مرشح للاستفحال في
ظل تجاهل تام للقوى الدولية والإقليمية لجوهر الصراع، واكتفائها بانتظار ساعة
الصفر إن لم تكن مبادرة لإشعال فتيلها، وهي التي نكأت كل البؤر الخامدة وأيقظت كل
مناطق الصراع التاريخية لتحولها لمسرح تصريف الخلافات بالوكالة، ولن يكون المغرب الكبير
بمنأى عنها.
الرومانسية السياسية فقدت أي تأثير ممكن في تخفيف حدة الخلافات بين
البلدين بعد أن تحولت فعليا لعقيدة لا يمكن تحريكها إلا بحرب أو مناوشات لا أحد
يمكنه التنبؤ بمداها. ومفردة الحرب التي
ظن الكثيرون أنها أقبرت بلا عودة، عادت للتداول وإن على احتشام. الاستعداد للحرب
لدى الجميع صار مرادفا لإمكانية استدامة حالة "السلام". العسكريون لهم
دوما
رأي آخر إن تحكموا في إدارة الصراعات.
ما يحدث في الملاعب من تأجيج للعداء، وفي المنتديات من ضرب تحت
الحزام، وفي الإعلام من استغلال للأبواق وغيرها من المناوشات اليومية، مجرد بروفات
إحمائية للشر المستطير المنتظر في قادم الأيام. استحضار الرموز الإفريقية أو
الشعارات العنصرية لن ينفع في دفع لهيب حرائق سيصطلي بها الفاعلون والمفعول بهم
على السواء. وإن كان لابد من القتال من أجل تحرير "الصحراء الغربية"،
فالأولى بالقتال صاحب الحق في الأرض والحق في الانتماء.