قضايا وآراء

جنايات المُخْبِر السرّيّ في العراق!

هل ينتهي الخوف بين العراقيين؟ تويتر
تَنصّ المادّة (47) من قانون أصول المُحاكمات الجزائيّة العراقيّة النافذ بموجب القانون رقم (119) لسنة 1988: "للمُخبر في الجرائم الماسّة بأمن الدولة وجرائم التخريب الاقتصاديّ وغيرها أن يطلب عدم الكشف عن هويّته وعدم اعتباره شاهدا".

وهذا يعني أنّ المُشرّع العراقيّ وفّر الحماية للمُخْبِر السرّيّ واعتبره من وسائل الإخبار عن الجريمة!

والإخبار قد يكون صادقا أو كاذبا، والذي يعنينا هنا هو الإخبار الكاذب، ويعني إخبار السلطات المُختصّة عن جريمة مُزيّفة وإسنادها إلى المُخْبَر عنه بقصد الإضرار به، أو إسناد واقعة صحيحة إلى غير مُرتكبها الأصليّ.

وبالرغم من حمايته للمُخبر السرّيّ فقد تنبّه المُشرّع العراقيّ لقضيّة الميول الشخصيّة عن الإخبار، ولهذا أكّد في الفقرة الثانية من المادّة (47) على ضرورة التأكّد من هويّة المُخْبِر السرّيّ لمعرفة ما إذا كان لديه عداء شخصيّ مع المُتهم، أو مصلحة خاصّة، وهذه نقطة مُهمّة تدعم العدالة وتُنهي قضيّة استغلال ضعاف النفوس للقانون!

ويُمكن النظر للمُخْبِر السرّيّ، بالعموم، على أنّه جاسوس (مأجور أو مُتطوع، صالح أو طالح) لتحجيم كلّ مَن يحاول الإضرار بأمن وسلامة الوطن والناس!

بعيدا عن آليات اختيار المُخْبِرين السرّيّين الرسميّين والذين هم غالبا من المُجرمين السابقين أو ضعاف النفوس، فإنّ غالبيّة دوافع الإخبار السرّيّ، وبالذات في الحالة العراقيّة، كانت لدوافع سياسيّة وطائفيّة وماليّة ولخلافات شخصيّة

وهنالك فرق بين المُخْبِر الصالح والطالح، فالأوّل هو الذي يحاول تبليغ الجهات ذات العلاقة بمعلومات عن جريمة مُرتكبة أو متوقّعة، وهذا جزء من المُواطنة التي يُفترض أن تكون شَطْر تركيبة المجتمعات النبيلة.

وأما النوع الثاني، الطالح، فهو المُخْبِر الذي يكذب ويفتري على الآخرين، وربّما يساوم الأبرياء، ويُسْتَخدم من قبل بعض الأشرار لإلحاق الضرر المادّيّ والمعنويّ والأخلاقيّ بالأبرياء، وهذا مِن أشرّ الناس وأشدّهم ضررا على الدولة والمجتمع معا!

وبعيدا عن آليات اختيار المُخْبِرين السرّيّين الرسميّين والذين هم غالبا من المُجرمين السابقين أو ضعاف النفوس، فإنّ غالبيّة دوافع الإخبار السرّيّ، وبالذات في الحالة العراقيّة، كانت لدوافع سياسيّة وطائفيّة وماليّة ولخلافات شخصيّة، وكذلك بسبب التحاسد والتباغض وغيرها من الآفات المجتمعيّة!

وبعد العام 2003 لعب المُخْبِر السرّيّ دورا كبيرا في وقائع الأحكام القضائيّة ومجريات التحقيق، وكان أداة قاتلة، واستُخدم بطريقة تعسفيّة نشرت الخوف والرعب في بيوت المواطنين الأبرياء!

وكانت تجارب العراقيّين مريرة مع جنايات المُخْبِرين السرّيّين، وقد زجّ بسببهم عشرات آلاف الأبرياء في السجون، ومنهم مَن حُكِم عليه بالإعدام أو المؤبّد، ومنهم مَن ضاع أثره، وبالذات في القضايا المتعلّقة بالإرهاب، الشمّاعة الأخطر والأسرع لقصم ظهور الخصوم!

ولأوّل مرّة منذ العام 2003 كشفت وزارة العدل العراقيّة يوم 6 أيلول/ سبتمبر 2021 أنّ "عدد المحكومين بقضايا الإرهاب يزيد عن (50) ألف سجين تقريباً، وأنّ نصفهم محكومون بالإعدام"، وهؤلاء مُوزّعون على تسعة سجون كبيرة، عدا المعتقلات الثانويّة التابعة للأجهزة الأمنيّة!

إنّ الوشايات القائمة على الآفات النفسيّة الشخصيّة وربّما الفكريّة، والدينيّة والمذهبيّة، جعلت بعض الأشخاص يبيعون ضمائرهم للشيطان مقابل دنانير معدودة ويبلغون عن الأبرياء ويتّهمونهم بجرائم قاصمة للظهر!

وقد سعى المُشرّع العراقيّ بعد العام 2009 للتقليل من آثار الإخبار السرّيّ، وبالذات بعد أن وصل الأمر لدرجات غير مقبولة وفقا لكلّ الشرائع الأرضيّة والسماويّة، حيث أكّد وفق المادّة (243) من قانون العقوبات المُعدّلة بالقانون رقم (15) لسنة 2009 على تشديد العقوبة بحقّ المُخْبِر السرّيّ، واعتبرها جناية يُحكم المتورّط فيها بالحبس من 10 إلى 15 سنة!

وسبق لرئيس مجلس القضاء الأعلى، مدحت المحمود، أن أعلن في بيان له في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، أنّ (498) مُخبراً سرّيّاً في بغداد وحدها تمّت إحالتهم للقضاء بتُهم البلاغ الكاذب!

وأعلن مجلس القضاء الأعلى يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر 2022، عن إصدار حُكم بالسجن عشر سنوات بحقّ مُدان قدّم إخبارا سرّيّا كاذبا أمام الجهات الأمنيّة!

والسؤال هنا: إذا كان القضاء العراقيّ تنبه مؤخرا إلى الدعاوى والبلاغات الكيديّة لمئات المُخْبِرين السرّيّين ببغداد وحدها، وذات الدوائر القضائيّة لديها سجلّات دقيقة حول مَن مِن السجناء اتّهم بموجب تقارير وشهادات المُخْبِر السرّيّ، وعليه ألا يُفترض، والحالة هذه، إعادة محاكمة هؤلاء السجناء؟

ثمّ كم أعداد الذين اعتُقلوا وسُجنوا بموجب وشايات المُخْبِر السرّيّ الكاذبة؟

إعادة محاكمة ضحايا المُخْبِر السرّيّ ليست قضيّة سياسيّة بل قضائيّة بحتة، ويتوجّب هنا تدخل الجهات التشريعيّة والقضائيّة لمعالجة تداعيات فواجع المُخْبِر السرّيّ التي تسببت بجرائم إنسانيّة ومجتمعيّة لم تُحسم حتّى اليوم

ومسألة إعادة محاكمة ضحايا المُخْبِر السرّيّ ليست قضيّة سياسيّة بل قضائيّة بحتة، ويتوجّب هنا تدخل الجهات التشريعيّة والقضائيّة لمعالجة تداعيات فواجع المُخْبِر السرّيّ التي تسببت بجرائم إنسانيّة ومجتمعيّة لم تُحسم حتّى اليوم، بسبب ثلّة من الذين باعوا ضمائرهم للشيطان والدولار!

وينبغي على مَن يملكون السلطة القضائيّة العمل لإعادة مُحاكمة الأبرياء في أسرع وقت ممكن، وإنصاف المظلومين، وتقديم المُخْبِر السرّيّ للمحاكمة وتعويض الضحايا مادّيّا ومعنويّا!

وقد يكون مِن ضمن الحلول الجيدة تجميد القوانين المتعلّقة بالمُخْبِر السرّيّ، وعدم اعتبار إخبارهم أدلّة باتّة وشهادات قطعيّة الدلالة، بل يُفترض ألا تكون أداة لبناء الأحكام والقرارات القضائيّة!

ولم تتوقف آثار جرائم المُخْبِر السرّيّ عند المحكومين، بل هنالك آلاف العوائل هجّرت داخل العراق وخارجه بسبب أكاذيب المُخْبِر السرّيّ، فمَن يُنْصِف جميع هؤلاء المُضطهدين الأبرياء؟

فعلا لا ندري مَن يُخلّص الأبرياء مِن تداعيات الإخباريات السرّيّة الكيديّة التي دمّرت آلاف الأبرياء وطحنت عوائلهم.

twitter.com/dr_jasemj67