عرفت بداية السنة الجديدة في
تونس ارتفاعا ملحوظا بعدد جلسات الاستماع للوجوه البارزة في المعارضة من قبل
القضاء، وفي مقدمتهم رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس "جبهة الخلاص الوطني" أحمد نجيب الشابي.
ونهاية العام الماضي، مثل الغنوشي أمام القضاء على ذمة قضية ما يُعرف بـ"الجهاز السري" ليتقرر تأجيل القضية إلى 25 كانون الثاني/ يناير الجاري.
كما استمع قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب بتونس لوزير العدل السابق ونائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري، قبل أن يقرر تأجيل الجلسة إلى منتصف شهر كانون الثاني/ يناير الجاري، في ما يعرف بملف "جوازات السفر ومنح جنسيات".
وعلى ذمة القضية نفسها، استمع القضاء التونسي الإثنين لرئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي ليتقرر تأجيل القضية إلى 24 كانون الثاني/ يناير الجاري.
والأسبوع الماضي، تمت إحالة رئيس "جبهة الخلاص الوطني" الشابي ومعارضين آخرين على التحقيق بعد أقل من أسبوع من تقديم رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، بتهمة "التستر على الإرهاب" طبق القانون الأساسي المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.
وشملت الشكوى التي تقدمت بها موسي أسماء معارضة بارزة شملت رئيس "جبهة الخلاص" الشابي، والقياديين في الجبهة، رضا بالحاج وجوهر بن مبارك، والرئيس التونسي الأسبق محمد المنصف المرزوقي.
كما أحالت النيابة العامة المحامي ورئيس هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين العياشي الهمامي على التحقيق بناء على طلب من وزيرة العدل ليلى جفال، "بتهمة استعمال أنظمة الاتصال لنشر إشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على الأمن العام"، طبق الفصل 24 من المرسوم عدد 54، وهي التهمة التي يصل عقابها إلى عشر سنوات سجنا.
وأثارت هذه القضايا جدلا واسعا على الساحة السياسية في تونس، خصوصا وأن ارتفاع نسق المحاكمات جاء بعد قرار رئيس البلاد قيس سعيّد إعفاء 57 قاضيا بتهم تتعلق بالفساد، ورفض وزيرة العدل ليلى جفال تطبيق قرار المحكمة الإدارية الذي قضى بوقف تنفيذ قرار
عزل القضاة.
"ترويع المعارضين"
وفي تعليق، قال رئيس الجمعية التونسية للقضاة الشبان مراد المسعودي إن "النظام الفردي القائم مني بهزيمة كبرى في الانتخابات التشريعية الأخيرة من خلال نسبة مشاركة كارثية عبر بواسطتها الشعب التونسي عن رفضه للنظام السياسي الذي أعده قيس سعيّد في دستوره والذي يجعل البرلمان مؤسسة صورية معدومة الدور في الحياة السياسية ومجرد وظيفة تابعة لسلطة رئيس الجمهورية على غرار السلطة القضائية".
وفي تصريح لـ"عربي21"، شدد المسعودي على أن "هذا الرفض عبر الانتخابات تعزز برفض قانون المالية الذي حمل الشعب التونسي أعباء جبائية إضافية دون زيادة في الأجور وفي ظل التضخم المالي والاقتصادي غير المسبوق مما أنتج حالة من الرفض لاستمرار هذا النظام الذي قوض كل أسس الدولة الديمقراطية وأسس لديكتاتورية ناشئة محورها رئيس الجمهورية وقد اجتمعت كل الأحزاب والمنظمات الوطنية على هذا الرفض لأول مرة وقد لجأ النظام القائم إلى كيل التهم لرؤوس المعارضة من خلال محاكمات الرأي وإثارة بعض القضايا ضد رموز المعارضة لترويعهم وإحباط مساعيهم".
عزل القضاة
وعن علاقة عزل الرئيس سعيّد لقضاة العام الماضي بالمحاكمات السياسية في البلاد، قال المسعودي، وهو من ضمن القضاة المشمولين بقرار العزل، إن "قضية عزل القضاة يعتبرها النظام ورقة رابحة أقام بها الدليل على قدرته على مكافحة ما يسمى بالفساد، وهي ورقة تم استعمالها لإنجاح الاستفتاء رغم أنها تعتبر حقيقة فضيحة لم يشهد لها مثيلا أي نظام سياسي باعتبار أنه تم عزل القضاة الذين رفضوا الانصياع لتعليمات السلطة التنفيذية فيما يتعلق بالانتقام من خصومها السياسيين والمتمسكين باستقلال السلطة القضائية وحيادها دون ملفات تبرر ذلك وهو ما أقرته المحكمة الإدارية من خلال إيقاف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية".
وتابع القاضي المسعودي: "وزارة العدل امتنعت عن تنفيذ هذه الأحكام وعمدت إلى تلفيق تهم للقضاة عبر ملفات مفبركة قائمة أساسا على تقارير أمنية مغرضة وغير ممضاة أو شكايات كيدية قديمة تم حفظها، وذلك لإيهام الرأي العام ومغالطته وإقناعه بأن وزارة العدل ورئيس الجمهورية يحاربان الفساد، وفي الحقيقة فإنهما يسعيان إلى تطويع القضاء وإخافة القضاة لاستعمالهم في المعركة ضد خصومهم السياسيين".
وأضاف: "تشكلت لجنة دفاع عن القضاة المعفيين ضمت عمداء المحامين وأكثر من 47 محاميا لفضح هذه الخروقات المرتكبة في حق القضاة والسلطة القضائية وبيان تفاهة التهم وعدم ارتكازها على أي أساس واقعي أو قانوني وقد ترأس هذه اللجنة المحامي السيد العياشي الهمامي الذي يسعى النظام إلى تتبعه وهرسلته على خلفية تصريحاته حول هذا الملف وبيان أن الملفات والتهم المثارة ضد القضاة المعفيين مفبركة ولا أمل في تتويجها بالإدانة".
كما توقع القاضي زيادة عدد المحاكمات وصدور أحكام بالسجن خلال الفترة القادمة، قائلا إن ذلك "سيكون نتيجة لتعنت النظام القائم وإصراره على سياسة القمع وضرب الحريات، وهذا التمشي لن يزيد المعارضة والشعب سوى إصرارا على وضع حد له".
وعن ملف القضاة المعزولين، كشف المسعودي أن "ملف القضاة المعفيين ما زال يراوح مكانه من حيث التجاهل والتهميش ولم يتم تنزيل الحركة القضائية لأن المجلس المؤقت للقضاء أدمج هؤلاء القضاة في الحركة ولم يسد الشغورات التي أحدثها أمر الإعفاء الظالم وقد عمدت وزارة العدل إلى عدم تنفيذ الأحكام الإدارية وعدم الانصياع لها رغم التنبيه عليها من قبل القضاة المعفيين عديد المرات بواسطة عدل تنفيذ ورغم إعلامها من المحكمة الإدارية فور صدور القرارات القاضية بتوقيف التنفيذ".
كما أشار إلى أن "الوضعية الإنسانية والاجتماعية للقضاة المعفيين قد تأزمت في ظل قطع أجورهم وعدم تمتعهم بالتغطية الصحية دون أي ذنب ارتكبوه وهو مؤشر على انتشار الظلم واستبداد النظام".
"محاكمات متتالية"
من جهة أخرى، قال كاتب عام "محامون لحماية الحقوق والحريات"، مالك بن عمر، إن عددا من المحاكمات هي بالأساس تعود إلى قضايا وقع افتعالها وبدأ التحقيق فيها منذ 25 تموز/ يوليو 2021، تاريخ إعلان رئيس البلاد الإجراءات الاستثنائية.
كما أشار المحامي بن عمر، في تصريح لـ"عربي21" إلى سرعة النظر في القضية المرفوعة ضد رئيس "جبهة الخلاص الوطني" أحمد نجيب الشابي وعدد من قيادات الجبهة، قائلا: "مثل هذه القضايا تبقى لمدة أشهر وأحيانا لسنوات للبت فيها، لكن في هذه القضية، تم توجيه دعوات التحقيق في أقل من أسبوع على أساس وجود جريمة من أجل فعل سياسي".
وشدد على أنه "منذ 25 تموز/ يوليو 2021، نشهد محاكمات متتالية لمعارضين ونواب مثل نواب ائتلاف الكرامة ثم الصحفيين المعارضين ولاحقا قيادات ونواب حركة النهضة، حيث تم إحالتهم على محاكمات عسكرية، قبل اللجوء إلى المحاكمات العدلية حيث تم توجيه تهم ذات صبغة إرهابية لعدد من قيادات حركة النهضة".
واعتبر كاتب عام "محامون لحماية الحقوق والحريات" أن هذا الأمر "يدخل في إطار الهرسلة وتصفية حسابات مع معارضين سياسيين من قبل قيس سعيّد، وهو تمشّ اتخذه منذ اليوم الأول، حيث كان الاعتماد على القضاء العسكري، قبل أن يقع الاعتماد على عدد من القضاة العدليين، الذين هم في موقف ضعف وخوف بعد عزل سعيّد لـ57 قاضيا".
وأضاف المحامي: "أصبحنا نلاحظ هذا الخوف في أعين القضاة المباشرين لهذه القضايا، الذين يخشون العقوبات ووقف الرواتب مثل ما وقع مع القضاة المعزولين، وهذا ما يجعلنا نشهد هذا النوع من المحاكمات"، مستدركا بالقول إن "القضاء العدلي، بسلبياته، يبقى أفضل بكثير من القضاء العسكري".
وعن إمكانية إصدار أحكام بالسجن، قال مالك بن عمر إنه "لا يوجد موعد محدد لجلسة استنطاق، لكن يبقى الهدف من هذه المحاكمات هرسلة المعارضين ووضعهم في قفص الاتهام، حتى لا يهتم المعارض بالشأن السياسي بقدر اهتمامه بوضعيته الشخصية والدفاع عن نفسه كمتهم".
وختم بالقول إن "وزيرة العدل أصبح لها تأثير واضح على عدد من القضاة خصوصا في النيابة العامة وحكام التحقيق، من خلال ممارساتها وتدخلها السافر في القضاء التونسي خصوصا بعد عزل القضاة العدليين من قبل الرئيس سعيّد".