ليس العدو فقط من كان يشكك في قدرة
قطر على تنظيم كأس
العالم، فالصديق أيضاً كان في ريب من القدرة على ذلك، ومنذ اللحظة الأولى لدخول
الدوحة المنافسة على تنظيم المونديال، والإجماع يكاد يكون منعقداً على أنها خطوة غير
مدروسة، وأنها قفزة في الهواء، ومغامرة لا يمكن استيعاب دوافعها!
لقد وضع الخصم "العقدة في المنشار"، وطالب قطر
بالتوقف عن هذا الجنون، والعدول عن قرار استضافة المونديال، ولا داعي للعب مع
الكبار، وانبعث الأشقياء في كل مكان يجزمون بأن قطر لن تستضيف
كأس العالم، بل إن
منهم من بشّر بأن قطر نفسها لن تكون على الخريطة بحلول عام 2020، واستمر التشكيك
حتى وقت متأخر، عندما تم منع المنتخب الروسي من المشاركة في كأس العالم بقرار
غربي، بسبب الحرب على أوكرانيا، فإذا بالزعيم الروسي يعلن في ثقة بالغة أنه لن
تُنظم مباريات كأس العالم هذا العام!
منهم من بشّر بأن قطر نفسها لن تكون على الخريطة بحلول عام 2020، واستمر التشكيك حتى وقت متأخر، عندما تم منع المنتخب الروسي من المشاركة في كأس العالم بقرار غربي، بسبب الحرب على أوكرانيا، فإذا بالزعيم الروسي يعلن في ثقة بالغة أنه لن تُنظم مباريات كأس العالم هذا العام!
كنت أنظر حولي فلا يتوقف السؤال كيف للقوم في الدوحة أن
يقدموا على هذه المغامرة، ونحن نشاهد دولاً كبرى عانت كثيراً عندما استضافت كأس
العالم، ولا أنكر أنني فكرت كثيراً في أن أكون خارج قطر في هذه الفترة، وكنت وغيري
من المحبين لهذا البلد نضع أيدينا على قلوبنا، فكيف له أن يستضيف هذه الأعداد
الهائلة، ويضبط سلوكهم، مهما كان الحضور الأمني، والزحام يفرض ثقافته، وسلوك
المشجعين منفلت بطبيعة الحال، فكيف لدولة صغيرة، هادئة، يزعج أهلها ارتفاع صوت
إنسان، ويعدونه كما لو كان يخترق قواعد الناموس، أن يستوعب حضور الملايين؟!
مغادرة قطر:
كنت أفكر في الخروج، لكني أتراجع بفضول الصحفي، وقد جاء
لنا كأس العالم في نسخة مختلفة، فلا يجوز المغادرة، ولا نكون شهوداً على حدث لن
يتكرر كثيراً في هذه المنطقة!
قلبت الأمر على كل الوجوه، ومع كل وجه لم تكن النتيجة
إيجابية أبداً، حتى مع تسليمي بأن القوم ربما يكونون قد فكروا فيما فكرنا فيه،
وأنهم أعدوا لذلك عدته، ولم نعتد منهم الارتجال، وكانوا يبدون واثقين من أنفسهم
لكن سرعان ما تداهمنا المخاوف، هل هي الثقة في النفس أم أنهم مستلمون استلام من
نقول عنه في أمثالنا الشعبية "سرقته السكين"؟
عندما كانت تفشل حساباتي في بعث الطمأنينة للنفس، كنت أجد
السلوى في التسليم بأن الله يدبر الأمر، إن امرأة من قبل أن ينزل الكتاب، قالت
لزوجها جازمة بأن الله لن يخذله أبداً، ثم وضعت حيثيات هذا الحكم "إنك لتصل
الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر"،
فكانت حيثيات حكمها هي شفاعة أعمال الخير، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً!
إن القطريين لم يظلموا أحداً، ولم يحاصروا جاراً، أو يخوضوا
في عرض، ولم يسايروا خصومهم في الهبوط إلى المستنقع، وظلوا في زمن المحن واللدد في
الخصومة يحافظون على قيم العروبة وأصالة المعدن العربي لا يضرهم من ضل!
كان العمل منذ أن جئت لقطر على قدم وساق، وبدت لي كبطن
مفتوح لا يمكن أبداً أن يصل إلى الانتهاء من هذه العملية القاسية، وجاء الحصار
فأوقف العمل، ثم جاءت جائحة كورونا ليكونوا على موعد مع عطلة إجبارية جديدة!
كان المستهدف بناء قطر جديدة، في بلد تبدو أنها بدون بنية تحتية، والذين سبقونا بالقدوم إلى الدوحة يرون أن الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة تسلم البلد في مرحلة البداوة، فاهتم بالعمران
زعيم ظلمته الجغرافيا:
كان المستهدف بناء قطر جديدة، في بلد تبدو أنها بدون
بنية تحتية، والذين سبقونا بالقدوم إلى الدوحة يرون أن الأمير الوالد الشيخ حمد بن
خليفة تسلم البلد في مرحلة البداوة، فاهتم بالعمران، وهو ما ألّب عليه دول الجوار،
وإن كان قد أنجز الكثير، من قرية اللؤلؤة التي هي على الطراز الأوروبي، إلى مدينة
مشيريب الجديدة التي إذا دخلتها شعرت أنك لست في قطر، إلا أن كل هذا العمران لا
يمكنه استيعاب المونديال!
بيد أننا تجاهلنا أن الشيخ حمد بن خليفة هو واحد من
الشخصيات العظيمة التي لم تدون مسيرته بعد، وهو رجل ظلمته الجغرافيا بأن وضعته في
بلد صغير، ولو وجد هناك في أي دولة عربية كبرى لفعل الكثير، ولكان من الشخصيات
التي يقف التاريخ أمامها طويلاً. وهو صاحب الجزيرة كفكرة، وعندما انطلقت لم
نستوعبها، بالأحرى لم نستوعب أن حاكما في منطقتنا ويعيش بين ظهرانينا يفكر على هذا
النحو، إلا إذا كانت خلفه مؤامرة تستهدف هذه الأمة! بيد أنهم تركوا التجربة تقدم
نفسها بنفسها، وكأنهم يثقون في عدل الأيام، وهو ما حدث بتجربة كأس العالم!
في حديثه لـ"القبس الكويتية" قال رئيس الحكومة
القطرية ووزير الخارجية الأسبق، الشيخ حمد بن جاسم، إن الشيخ حمد بن خليفة ناصري.
وقد تكون ناصريته في هذا التمسك بالقومية العربية، والانحياز لقضايا أمته، لكنه في
انتظاره لحكم التاريخ، فإنه بعيد عن عبد الناصر الذي كان لا ينظر إلا لرد الفعل في
اللحظة!
إن مسؤولين غربيين بدوا كما لو أنهم كانوا نائمين واستيقظوا واندفعوا قبل تنظيم كأس العالم مباشرة يستنكرون انعقاده في هذه المنطقة، حسداً من عند أنفسهم، وبعضهم فعل هذا مقابل دعم قدمه لهم قادة في الإقليم، غلبت عليهم شقوتهم، وهم لا يطمعون ولا يحلمون بالمنافسة، ولكنهم لا يريدون لقطر أن تفوز بتنظيم كأس العالم
ومهما يكن فالرجل الذي استلم بلداً صغيراً حتى داخل
المنظومة الخليجية، لم يستسلم لهذا الوضع، فكانت الجزيرة، وكان هذا الحضور الكبير
في السياسة الخارجية، لكن هل يعقل أنه في كل مرة تسلم الجرة، ويكون واعياً تماماً
لقدرة بلاده على تنظيم المونديال، وهو يتقدم واثق الخطوة مقدماً ملف قطر كمنافس
على تنظيمه بعد اثني عشر عاماً؟ يا لها من مغامرة!
إن مسؤولين غربيين بدوا كما لو أنهم كانوا نائمين
واستيقظوا واندفعوا قبل تنظيم كأس العالم مباشرة يستنكرون انعقاده في هذه المنطقة،
حسداً من عند أنفسهم، وبعضهم فعل هذا مقابل دعم قدمه لهم قادة في الإقليم، غلبت
عليهم شقوتهم، وهم لا يطمعون ولا يحلمون بالمنافسة، ولكنهم لا يريدون لقطر أن تفوز
بتنظيم كأس العالم، فقد أصابهم ما أصاب إخوة يوسف!
ولهذا، فعندما كان زملاء لي يقولون إنهم لن يطمئنوا
تماماً إلا عند إطلاق إشارة البدء، كنت أقول إنني لن أطمئن إلا بعد الليلة
الختامية، فلن آمن مكر القوم!
كان غاية المراد أن تنجح قطر في تنظيم المونديال على حالته، ولم نكن نطمع في تقديم نسخة مختلفة، ولم يكن لدينا يقين أنها ستفرض قيمها كدولة عربية تنتمي للأمة الإسلامية على هذا الجمع الكبير، لكن الأمر اختلف منذ الليلة الأولى، ولم يكن الأمر يستدعي الانتظار للنهاية!
البداية الملهمة:
كان غاية المراد أن تنجح قطر في تنظيم المونديال على
حالته، ولم نكن نطمع في تقديم نسخة مختلفة، ولم يكن لدينا يقين أنها ستفرض قيمها
كدولة عربية تنتمي للأمة الإسلامية على هذا الجمع الكبير، لكن الأمر اختلف منذ
الليلة الأولى، ولم يكن الأمر يستدعي الانتظار للنهاية!
لقد رفضت قطر رفع شارات المثليين، واستجابت الفيفا،
ورفضت شرب الخمور في الملاعب، ورضخت الفيفا لذلك. وكان التنظيم غاية في الروعة
بشهادة الخصم قبل الحبيب، وبدا المواطن العربي كما لو كان يعيد اكتشاف هذا البلد
الخليجي الصغير!
إن دعاية ممولة، مثلت حملة إبادة إعلامية ضد قطر،
استباحت الأعراض، ضد هذه الدولة الصغيرة التي تعتقد أنها بالتطاول في البنيان
يمكنها أن تكون شيئاً مذكورا، وفي اللحظة التي كانت فيها أنظار العالم كله تتجه
تلقاء قطر، ردت الاعتبار لنفسها، فأبهرت القريب والبعيد، أهذه هي الدولة الصغيرة
التي هي في حجم سكان فندق الماريوت في القاهرة؟!
يا لها من دعاية نالت من أنظمة الفشل، في الوقت الذي
مثلت انتصاراً لقطر، بدون حول منا أو قوة، وما رميت إذ رميت!
شاهدت الدنيا هذا الأمير الشاب وأسرته ينحازون للمنتخبات
العربية، ويرفعون أعلام هذه الدول، بدون تقييد بقواعد، أو التكلس في المقاعد،
وتذهب ببصرك فتجد الولد والوالدة يرفعان هذه الأعلام ويشجعان هذه المنتخبات، ذرية
بعضها من بعض!
ولو أنفقت قطر ما في الأرض جميعاً، ما استطاعت أن تغزو
القلوب كما فعلت بهذه النسخة من المونديال التي قال الأمير الشاب إنها "أتاحت
الفرصة لشعوب العالم لتتعرف على ثقافتنا"! إنه لا يتحدث عن ثقافة قطر، إلا من
حيث أنها جزء من ثقافة منطقة، وأمة!
لو أنفقت قطر ما في الأرض جميعاً، ما استطاعت أن تغزو القلوب كما فعلت بهذه النسخة من المونديال التي قال الأمير الشاب إنها "أتاحت الفرصة لشعوب العالم لتتعرف على ثقافتنا"! إنه لا يتحدث عن ثقافة قطر، إلا من حيث أنها جزء من ثقافة منطقة، وأمة!
لاحظ هنا أن الملايين التي جاءت لم تشك مثلاً من قلة
الطعام، أو عدم توافره، هل تذكرون ليلة الحصار عندما انطلقت أصوات البوم فرحة بأن
القطريين يبحثون عن "علب الزبادي" للسحور، وكأن الهدف من الحصار هو إجبار
القطريين على أكل أوراق الشجر؟!
كثير مما قيل كان فيه مبالغة كبيرة، لكن كان الناعقون
يعرفون أن قطر تعتمد بشكل أساسي على استيراد السلع الغذائية من شركة سعودية على
وجه التحديد، وانتهى الحصار وصار ذكرى أليمة، لكن لم يتم التعامل مع هذه الشركات
مرة أخرى، فقد نوعت قطر مصادر الاستيراد، فذهبت تقيم المزارع في ربوعها فما حك
جلدك مثل ظفرك، فستضيف هذا العدد الكبير من كل أنحاء العالم، فلا تختفي سلعة، ولا
تحدث أزمة في توفير سلعة أخرى!
وحتى الهزائم صارت في هذه النسخة انتصارات عظيمة، قد كتب
أحدهم منذ البداية أن منتخب قطر سيحقق فوزاً بالمال، فإذا بأداء المنتخب القطري
دون المستوى، فتبدو الهزائم كما لو كانت نصراً مبيناً!
ويُهزم المنتخب الفرنسي، لتنقذ هزيمته الحفل الختامي من
شكل كان سيمثل هزيمة يتغنى بها الخصوم، ووزيرة الرياضة الفرنسية تبشر بأنهم إذا
فازوا بكأس العالم سوف يرفعون شارات المثليين، ولك أن تتصور حدوث ذلك، فماذا كان
سيكون أداء من يخفون في أنفسهم ما الله مبديه؟! لكن، "وما يعلم جنود ربك إلا
هو".
لقد ردت قطر الاعتبار لبلد، وإقليم، وأمة! نعم نحن
نستطيع!
twitter.com/selimazouz1