كتاب عربي 21

أين البديل الذي يقدمه المنشغلون بما يسمى النقد الذاتي؟

1300x600
منذ نجاح الأنظمة المستبدة في الانقضاض على ثورات الربيع العربي قبل ما يقرب من عشر سنين، لم ينفك نفر ممن ينتسبون إلى التيار الإسلامي عن البحث عن مواطن الخلل فيما يطلق عليه اصطلاحاً الحركة الإسلامية، وهو مصطلح يقصد به مستخدموه في الأغلب "جماعة الإخوان المسلمين". يرى هذا النفر من الناس أن الكارثة التي حلت بالأمة، وحطمت حلم شعوبها في الحرية والكرامة، ما كانت لتقع لولا أخطاء وانحرافات ارتكبتها هذه الحركة الإسلامية، التي يرون أنها بإخفاقاتها مكنت من نفسها خصومها الذين راحوا ينقضون على المشروع الإسلامي بأسره.
 
بعض المنشغلين في هذا الجهد هم أعضاء سابقون في جماعة الإخوان، خرجوا منها لأسباب متعددة، ولكن البعض الآخر لم يكونوا يوماً من الحركة، وإن كانوا ضمن التيار العام للعمل الإسلامي المنظم سواء كأفراد أو ضمن أطر أخرى قد تتفق مع جماعة الإخوان في أمور وتتباين معها في أخرى.
 
من المؤكد أن جماعة الإخوان، قيادة وأفراداً، ليست فوق النقد، وليست معصومة عن الخطأ، ومن المؤكد أنه في ضوء الكارثة التي حلت بالجماعة، ينبغي فعلاً مراجعة ما صدر من قرارات وما تم تبنيه من اجتهادات، تقييماً للمسيرة، ومحاسبة للمسؤولين، واستخلاصاً للدروس والعبر التي يحسن بالجيل الحالي تقديمها لمن سوف يحمل الراية ويكمل المسيرة من بعده.
 
لا أزعم أنني قد أحطت بكل ما قيل في نقد الجماعة وقرارات قياداتها وسلوك منتسبيها، ولكني مما سمعته حتى الآن يمكنني الخلوص إلى ما يلي:
 
أولاً: جزء مما يوجه إلى الجماعة من نقد صحيح، وينبغي أن يؤخذ بالحسبان، وأن يقدر الجهد الذي يبذله المشفقون على الجماعة وعلى المشروع الإسلامي في إثارة الأسئلة الوجيهة حول ما جرى وما تم اتخاذه من قرارات.
 
ثانياً: جزء من النقد الموجه قائم على انطباعات شخصية أو انطباعات منقولة، وذلك لتعذر الحصول على معلومات مؤكدة أو شهادات موثقة.
 
ثالثاً: بعض النقد مصدره الإشفاق على الجماعة، ولكن جزءاً لا بأس به منه مرجعه الشعور بالإحباط والهزيمة، وبعضه مدفوع بالتحيز أو التحامل.
 
رابعاً: جل الناقدين فيما نعلم – وما خفي عنا فالله به أعلم – لم يسعوا ولا يسعون إلى إقامة مشروع بديل عن الجماعة، فينجحوا حيث أخفقت، ويحسنوا حيث أساءت، ويحملوا هم الراية التي من أيديها أسقطت، ويستأنفوا المسير من حيث توقفت. بل كثير من النقد هو من باب التحليل النظري الذي يقدمه أصحابه في مجالس خاصة أو في مؤتمرات وندوات عامة، يغيب عنها من قادة وأفراد الجماعة من يملكون الإجابة على ما يثار من تساؤلات، بعد أن غيب معظم قادتها والشهود على اختياراتها، فباتوا إما تحت الثرى أو في السجون، أو في المنافي. فأما من انتهى بهم الأمر في الشتات فقد نال من كثير منهم الإحباط والخلاف، فآثروا الصمت والابتعاد، بينما انشغل بعضهم في التنافس على سراب.  
 
خامساً: حينما لا يجد الناقد دليلاً يستند إليه فإنه يذهب إلى التفنن في ابتكار الانحرافات والإخفاقات ولصقها بالإخوان، مثل الزعم بأنهم كانوا منعزلين عن مجتمعهم، والادعاء بأنهم استغلوا ثقة الناس بهم فانصرفوا عن خدمتهم إلى خدمة أنفسهم، وبأنهم انشغلوا بالسياسة عن الدعوة، وبأنهم فشلوا في إدارة شؤون الدولة حينما تسلموا مقاليد الأمور فيها، وبأن الناس لم تعد تثق فيهم فانفضوا عنهم. والحقيقة التي لا يمكن لدارس إنكارها هي أن الإخوان كانوا أكثر الفئات المجتمعية خدمة للناس في مجتمعاتهم، في الدعوة وإصلاح ذات البين، وتقديم العون للمحتاجين، وفي التثقيف والتعليم، ونصرة قضايا الأمة، وذلك بالرغم من كل القيود التي كانت تفرض على حركتهم، والعراقيل التي توضع في طريقهم، وما تعرضوا له على مر السنين من ملاحقات، ومصادرة أموال، وإغلاق مصالح، وحظر توظيف، ومنع من السفر، ناهيك عن الاعتقال والتوقيف.
 
سادساً: سعياً للتهويل من الأخطاء والإخفاقات، يغفل بعض الناقدين حقيقة أن الإخوان في مصر بالذات لم يفشلوا في الحكم، وإنما أخرجوا منه عنوة بانقلاب عسكري دموي، خشي منفذوه ومن مولهم ودعمهم – محلياً وإقليمياً ودولياً – أنهم لو استمروا في الحكم مدة أطول لبدأ الناس يرون نجاحاتهم، ولربما أسفرت نجاحاتهم عن تقديم نموذج تتطلع إليه الشعوب من حولهم، وترنوا إلى مثله، فعاجلوهم بضربة قاضية، ليس سراً أن الصهاينة كانوا من بين من حرضوا عليها، وأن أنظمة الحكم الملكية في الرياض وفي أبوظبي مولتها وسعت لتأمين الدعم السياسي والدبلوماسي الدولي لها.
 
سابعاً: تعاني جل التحليلات النقدية لتجربة الإخوان من الموازنة النزيهة بين ما يمكن أن يعتبر أخطاء وإخفاقات تتحمل الجماعة المسؤولية عنها وبين عوامل قاهرة لا قبل للإخوان ولا لمن يأخذ عليهم المآخذ أن يتصدى لها في ظل ميزان للقوة لا يخدم عملية التغيير. بمعنى آخر، رغم كل ما يمكن أن يعتبر أخطاء وإخفاقات، وبافتراض أن أياً من هذه الأخطاء والإخفاقات المزعومة لم يكن موجوداً أصلاً، فما كان بالإمكان منع الانقلاب من أن يحصل، وذلك لجملة من العوامل، وعلى رأسها ما كشف عنه من تدني منسوب الوعي لدى عامة الجماهير، التي غرر بها خصوم الأمة من الانقلابيين، وانطلت عليها أكاذيبهم، وخدعتها أحابيلهم.
 
ثامناً: جل ما ينتقد عليه الإخوان في مصر بالذات إنما هو اجتهادات في قضايا فنية لها سياقاتها الخاصة، وفي بيئة سياسية واجتماعية متحركة ومتقلبة، وبسرعة فائقة. واحتمال الخطأ والصواب في مثل تلك الاجتهادات وارد لا محالة، ولكن يصعب على من يعيش السياق نفسه أن يمحص ذلك في حينه كما يفعل من ينظر إلى الخلف ويراجع الأحداث، ويقلب الصفحات، ويرجح بين المواقف، مستفيداً من كون الحدث قد مضى، وتجلت تداعياته لمن يرى.
 
وأخيراً: هب أن الإخوان فشلوا، بل وانتهوا، فأين هم فرسان هذه المعركة من غير الإخوان، أو من الإخوان الخارجين من التجربة بمرارة وألم؟ لماذا لم يقدم أحد من هؤلاء حتى الآن بديلاً؟ ولماذا لا تعقد ندوات ومؤتمرات، ليس من أجل الاستمرار في اجترار نفس الكلام وتوجيه نفس السهام، وإنما من أجل الخروج من أزمة الكل طرف فيها وضحية لها، ومن أجل إحياء الحراك الشعبي العام المطالب بالحرية والكرامة وتخليص الشعوب من أسر أنظمة حكم لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة؟
 
على كل حال، من فضل الله تعالى علينا معشر المسلمين عدم وجود كنيسة أو مؤسسة تدعي تمثيل الله في الأرض واحتكار النطق باسمه. فجماعة الإخوان مجموعة من المسلمين، يجتهدون السعي للإصلاح، ولا يملكون حق احتكار ذلك، بل كل مسلم مكلف، وعلى من يرون أن مشروع الإخوان قد فشل وانتهى أن يتعبدوا الله بإخراج مشروع جديد إلى الواقع، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وجهاداً في سبيل الله. "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة".