يجمع الخبراء والمراقبون للشأن الاقتصادي في تونس حول حدة الأزمة الاقتصادية واستمرار تفاقمها وخطورة انعكاساتها الاجتماعية المنتظرة في ظل غياب تصورات وحلول معقولة لتجاوزها.
وبعيدا عن الشعبويات والاتهامات المجانية والمهاترات فإن الأزمة الاقتصادية في تونس ليست مستحدثة أو طارئة إنما هي ضاربة في أعماق مسار بناء دولة الاستقلال فمن فشل تجربة التعاضد وما خلفته أواخر ستينيات القرن الماضي إلى أزمة 1978 وانعكاساتها الاجتماعية والسياسية ثم محاولة رفع الدعم عن المواد الأساسية وأحداث الخبر سنة 1984 التي تلاها برنامج الإصلاح الهيكلي (PAS )سنة 1986 وضرب الاتحاد العام التونسي للشغل إلى مرور الاقتصاد الوطني بحالة انتعاش أثناء الفترة الأولى من حكم بن علي الذي اعتمد نفس البرنامج مع بعض السياسات والإجراءات الفعالة، لكن سرعان ما آلت تلك الانتعاشة إلى حالة من التدهور؛ بسبب استنفاذ منوال التنمية الذي اعتمدته الدولة منذ الاستقلال لأغراضه إضافة إلى الفساد الممنهج الذي استشرى في مفاصل الدولة وفي المجتمع، حيث بلغ التدهور الاقتصادي أوجه سنة 2008. وظهرت بدايات آثاره الاجتماعية في أحداث الحوض المنجمي ثم تلتها أحداث الثورة بين17 كانون الثاني ديسمبر 2010 / 14جانفي2011.
إلا أن عشرية الثورة والديمقراطية لم تتمكن من إيقاف حالة التدهور الاقتصادي التي كانت تتطلب وقفة شجاعة وحكيمة أمام تيار الانتظارات الاجتماعية الجارف الذي ازداد عنفوانا بسبب امتزاجه بالتوظيف السياسي الداخلي والخارجي الذي كان يستهدف التجربة من أساسها.
لقد عجزت كل الحكومات المتعاقبة عن الإمساك بطرف الخيط كما يقال واعتمدت سياسة التوسع في التداين من أجل تحقيق الإنعاش الاقتصادي الذي بدوره سيخلق الثروة ويساعد على سداد الديون لكن سرعان ما تم إجهاض هذا التوجه بتحول القروض في أغلبها إلى تغطية كتلة الأجور التي تضاعفت مقارنة بـ 2010 وأصبحت من أعلى النسب في العالم إضافة إلى مستحقات الدعم. في ظل مناخ سياسي واجتماعي يفتقد تماما للاستقرار ونظام سياسي يفتقد للإرادة والجرأة.
وقد استمر الوضع على ما هو عليه بعد 25 تموز (يوليو) 2021 بل ازداد تعقيدا وتفاقما بتحول الحالة من أزمة قابلة للتدارك إلى أزمة صعبة التجاوز من حيث تغطية عجز ميزانية سنة 2022 ووضعية المؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية وارتفاع نسبة البطالة إلى 18% إلى جانب ندرة بعض المواد الأساسية وفقدانها أحيانا وتصاعد الإقبال على الهجرة غير الشرعية من جميع الأعمار والمستويات الاجتماعية إضافة إلى حالة التخبط السياسي التي تعيشها البلاد بعد الانقلاب على الديمقراطية خاصة في علاقة بالأجندة السياسية للسلطة في مختلف مراحلها وإدارتها للدولة في كل المستويات دون أن ينتفي ذلك عن المعارضة التي تعيش هي الأخرى حالة تشتت وتشرذم جعلتها عاجزة عن القيام بالدور الوطني الذي تتطلبه المرحلة.
عشرية الثورة والديمقراطية لم تتمكن من إيقاف حالة التدهور الاقتصادي التي كانت تتطلب وقفة شجاعة وحكيمة أمام تيار الانتظارات الاجتماعية الجارف الذي ازداد عنفوانا بسبب امتزاجه بالتوظيف السياسي الداخلي والخارجي الذي كان يستهدف التجربة من أساسها.
لقد تحولت تونس في الأشهر الأخيرة إلى قدر يغلي دون متنفس يجنبه الانفجار الاجتماعي خاصة وأن الاتفاق الذي حصل في مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي حول 1,9 مليار دولار مقسمة على أربعة سنوات على أن يتخذ مجلس إدارة الصندوق القرار النهائي في كانون الأول (ديسمبر) المقبل ولن يتم صرف القسط الأول منه قبل شباط (فبراير) 2023 لن يخرج البلاد من أزمتها الخانقة بإجماع كل الخبراء بمختلف توجهاتهم حتى وإن فتح الباب لمزيد التداين عبر اتفاقيات ثنائية مع دول أو مؤسسات مالية.. لذلك فإن أفق الاعتماد عليه محدود جدا في علاقة بعجز ميزانية 2022 فضلا عن ميزانية 2023، دون أن نغفل كلفته الاجتماعية التي قد تسببها الإصلاحات التي كانت ولا تزال مطلبا دوليا طيلة العشرية السابقة وعجزت كل الحكومات عن تحقيقها.. ومما يزيد الطين بلة أن مضمون الاتفاق حول كيفية تنفيذها لا يزال مجهولا ولم يقع التشاور حوله مع المنتظم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الوطني ودليل ذلك ما يصدر من تصريحات آخرها للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل .
الراجح أن تونس مقبلة على سنوات عجاف لا مخرج منها إلا برؤية متكاملة الأبعاد أساسها سياسي بامتياز بالمفهوم الشامل للسياسة في أبعادها المتعلقة بالتأسيس للديمقراطية وإدارة الحكم وتحديد الخيارات والتوجهات وصياغة السياسات العامة في كل المجالات واتخاذ القرارات المناسبة والحاسمة وإنفاذها.
إن تونس اليوم في أشد الحاجة إلى التضامن والوحدة الوطنية والاستعداد للتضحية من جميع الفئات والقطاعات على قاعدة تقاسم الأعباء والتي لا تتحقق إلا بـ:
1 ـ الديمقراطية إطار لأي عملية سياسية والحوار الوطني الجامع لكل الأطراف السياسية والاجتماعية دون استثناء وسيلة لصياغة حل شامل للأزمة ضمن رؤية استراتيجية .
2 ـ مرحلة انتقالية لا تتجاوز السنتين تديرها حكومة كفاءات مستقلة وغير معنية بالترشح للانتخابات .
3 ـ العودة لدستور 2014 لإدارة المرحلة الانتقالية في انتظار ما يفضي إليه الحوار الوطني بخصوص الإصلاحات الدستورية .
4 ـ مصارحة الشعب بالوضعية الاقتصادية وتعبئته بكل فئاته لتحمل أعباء الإصلاحات الاقتصادية لمدة لا تقل عن سبعة سنوات (سنتين انتقالية +دورة انتخابية مستقرة ) .
5 ـ وضع منوال تنموي جديد هدفه خلق الثروة بمراجعة الخيارات الاقتصادية الكبرى في علاقة بالقطاعات المنتجة للثروة ذات الأولوية ودور الدولة في العملية الاقتصادية وإعادة الاعتبار لقيمة العمل وحسن توظيف الموارد العامة للبلاد.
6 ـ المسارعة بإنجاز الإصلاحات الاقتصادية الضرورية وإدراجها ضمن المنوال التنموي الجديد على قاعدة التضحية وتقاسم الأعباء في إطار العدالة والشفافية والحوكمة الرشيدة.
7 ـ إصلاح وضعية القطاعات المنتجة للثروة مثل الفسفاط والنسيج والقوارص وزيت الزينون والتمور من حيث الإنتاج وكلفته والتصدير وأسواقه.
8 ـ اختتام المرحلة الانتقالية باستفتاء على الإصلاحات الدستورية وبانتخابات رئاسية وتشريعية تعيد بناء الشرعية بالاستناد إلى الإرادة الشعبية وتنفذ برنامجا اقتصاديا يستند إلى المنوال التنموي الجديد.
ورغم أن الشؤون الإنسانية عموما والاجتماعية خصوصا لا تتحرك وفق حتميات قد ولى زمنها وانقضى فقد بات من الأكيد أن الحل السياسي في تونس قد أصبح حتمية تاريخية لعدة اعتبارات وطنية وإقليمية ودولية تتشابك عناصرها وتتفاعل ويتأثر بعضها ببعض بحكم التداخل بينها الذي لا مفر منه .
فهل يتجاوز التونسيون صراعاتهم وأحقادهم وخلافاتهم وتنافيهم وأوهام بعضهم الإقصائية؟ ويبنوا على أخطائهم و يقدموا مرة أخرى نموذجا للتعايش السلمي والمسؤولية الوطنية والتنافس النزيه.. وذلك في إطار المراكمة على حصيلة العشرية المنقضية كجزء مهم من تاريخنا الحديث والتأسيس لديمقراطية مستقرة ومزدهرة قد باتت ضرورة لا مفر منها .
*كاتب وناشط سياسي تونسي
بعد مسيرة 15 أكتوبر.. هل تغير ميزان القوى لصالح المعارضة في تونس؟