الحرب التي تدور في أوكرانيا، بين روسيا الاتحادية من جهة والأوكرانيين والغرب من جهة أخرى، دخلت شهرها التاسع على وقع تراشق التهم باختلاق الذرائع لتصعيد نوعي في الأسلحة والمواجهات التدميرية الشاملة، وهي تنذر بتحول نحو استخدام قنابل قذرة، يفضي تفجيرها إلى استخدام السلاح النووي التكتيكي فالاستراتيجي ـ لا سمح الله ـ، الذي لا يتوقف عند جغرافيا، ولا يسفر عن منهزم ومنتصر، ويعرض البشرية كلها للإبادة، ولا يبقي من الحضارة ولا يذر.
وأيا ما كانت أسباب ونتيجة تبادل الاتهام والتكذيب والسعي لافتعال الذرائع، وإلقاء المسؤوليات من طرف على طرف، ومحاولات التنصل من النتائج، فإن ما يجري في الميدان وما يستعد له الطرفان المتحاربان، يشير إلى تصعيد خطير جدا وغير مسؤول، وإلى استعدادات لمرحلة أكثر وحشية ومأساوية، وأشد خطرا مما مضى في هذه الحرب.
فإلى أين يجرون العالمَ أولئك الذين يُلوِّحون بالقنابل القذرة، وبالأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى؟! أليس إلى حرب تَصْغُر معها الحرب العالمية الثانية التي كلَّفت البشرية 47,4 مليون إنسان في أدنى التقديرات، عدا الدمار الذي ألحقته بقارة أوروبا بأكملها وببلدان أخرى في قارتي آسيا وأفريقيا، والمآسي التي لحقت بشعوب ودول، وما أسفرت عنه تلك الحرب من نظام جائر، فرضه المنتصرون على العالم وما زالوا يحكمونه به، وهو نظام لا يمت إلى النزاهة والعدالة بصلة، ولم يحقق الأمن والسلم العالميين، ولم يجنب العالم حروبا حامية جرت في أثناء الحرب الباردة، وكلَّفت البشرية بدورها من الضحايا والدمار، ما يقارب أو يزيد على عدد ضحايا تلك الحرب العالمية؟!
قد تكون مواقف زعماء ورؤساء وساسة وقادة مفهومة، وتكون صحيحة في دفاعهم عن أوطانهم وشعوبهم ومصالحهم داخل حدود جغرافية أوطانهم، وقد تكون شكوكهم بأعدائهم في محلِّها، وإحساسهم بالخطر حقيقيا، ونِيَّاتهم حسنة وتوجهاتهم مشروعة، لكن حساباتهم ليست دقيقة، وتقديرهم لتطورات الأحداث مشوبٌ بالكثير من الخطأ والخلَل والعِلل، وبما لا يتوقعون من تطورات، فيدخلون مداخل الضيق ويُدخلون غيرهم تلك المداخل وتدور رحى الحرب الضروس؛ فتزوغ الأبصار ويغشيها ما يُغشِّيها، وينعدم بُعدُ النظر، وتَطغى الحماسة على العقلانية والمنطق، وينحسر دور الحِكمة، وتُهمل الوقائع ولا يُرى الواقع؛ فيَعمى البصرُ وتَعمى البصيرة، وتنقلب المواجهات إلى مغامرات جنونية وتحديات كارثية، وهلاك وإهلاك، وتكون النتائج وبالا على المعنيين بأمور الحرب وعلى غيرهم ممن تطالهم نيرانها ويحترقون بجريرة غيرهم. وتبقى الأمور بخواتيمها كما هو معروف، ودروب جهنم مفروشة بالنِّيات الطيّبة.
أيا ما كانت أسباب ونتيجة تبادل الاتهام والتكذيب والسعي لافتعال الذرائع، وإلقاء المسؤوليات من طرف على طرف، ومحاولات التنصل من النتائج، فإن ما يجري في الميدان وما يستعد له الطرفان المتحاربان، يشير إلى تصعيد خطير جدا وغير مسؤول، وإلى استعدادات لمرحلة أكثر وحشية ومأساوية، وأشد خطرا مما مضى في هذه الحرب.
لكن المدهش المريع الذي يدعو إلى أكثر من الشك في السلامة الصحية العامة لزعماء وساسة وقادة سببوا للبشرية كوارث ماحقة، أنه بعد كل تلك التجارب المأساوية، والحروب الكارثية، والكوارث التي لَحقت بالبشرية من جراء سياسات وساسة وقيادات وقادة ثبت عقمها، ما زالت شهية زعماء وساسة وقادة، وأقوياء كبار في عالمنا، مفتوحة على الحرب والقتل والدم والدمار، وعنجهيتهم البغيضة في تمدُّد وتَصَعُّد، ومصالحهم الضيقة في توسُّع، وطموحاتهم المريضة للتحكم والهيمنة في نُمو، وتورُّماتهم العنصرية ـ الاستعمارية ـ السلطوية التسلطية في حيوية ونشاط، وتدفعهم إلى أنواع من جنون العظمة والممارسات الإجرامية، تجعل العالم يدخل من أزمة إلى أزمة، ويقف على شفا الهاوية. ولا يشعرون بمسؤولية عما تسببوا، وما يمكن أن يتسببوا به للشعوب والدول من أزمات وصراعات وحروب، وبؤس مادي ونفسي وأخلاقي وروحي، جراء اتباع نهج عقيم مدمر.
وفي التدهور الأمني والاقتصادي العالمي، وهذين الوضع والمناخ الاقتتاليّن، اللذين يضع زعماء وساسة وقادة عالمَنا اليوم فيه، مَا الذي يضمن ألا يدفع: "انعدامُ الثقة، والخوفُ، والشكُ، وسوءُ الظن والتقدير، والخطرُ الداهم والمتوقع، والحمقُ السائد في الوسطين السياسي والعسكري، و.. و.. إلخ"، إلى أن يبادر أحدُهم إلى ضربة نووية استباقية، فتقع الكارثة ويبدأ التدمير الشامل ليس للطرفين المتحاربين فقط، بل للعالم كله، وبمخزون نووي يكفي لتدمير عالمنا عدة مرات، ويؤدي إلى إبادة عامة للبشر والحضارة، وتدمير للحياة على معظم الكرة الأرضية إن لم يكن عليها كلها!
والعجب العُجاب في أولئك النوويين الكبار العُتاة، دهاقنة القوة والحروب والتدمير، أنهم يعلنون بوعي وحزم وجزم: " ألَّا مصلحة، ولا رغبة، ولا تفكير لأي منهم بحرب نووية"، وفي الوقت ذاته يتسابقون في مجال التسلح النووي، ويطورون قدراتهم النووية، ويزيدون مخزونهم من أسلحة الدمار الشامل " نووية وكيمياوية وجرثومية"، ويرصدون المبالغ الطائلة بمئات المليارات من الدولارات لتلك الأغراض، ويستعدون لخوض حرب شاملة أقذر من قذرة على أنفسهم وعلى العالم بمن فيه وما فيه.
فأي خضم عجيب غريب مُريب هذا الذي نحن فيه، وأية سياسات تُرسم، وأية ساسة يسوسون الناس بها، وبأية قيم ومعايير ومسؤوليات ومبادئ وأخلاقيات يحكمون، ألا ساء ما يحكمون. وبأي حق وعقل ومنطق وخُلقٍ وضمير، ووفق أية شرائع وتشريعات وقوانين يفعلون ذلك؟! وهل يجوز لأربع دول نوويّة مسكونة بهذه الأمور والهواجس والنيات والمخاوف الآن، هي "الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، وإنكلترا، وفرنسا"، يبلغ عدد سكانها مجتمعة 610,288,846 نسمة، أن تُعَرِّضَ أمن مواطنيها وأمنَ 191 دولة غيرها معترف بها عالميا، وحياة 7,389,711,154 نسمة هم باقي عدد سكان العالم عدا سكانها، لإبادة جماعية محتملة، ولكوارث لا نظير لها، ولدمار شامل لكوكبنا الأرض؟! وأن تتسبب لكثيرين من بني البشر بأزمات وضائقات ومآسٍ فوق ما سببته لهم هي ونظيراتها من التحالفات سابقا من احتراب وعذاب وإرهاب دول وتنظيمات، ومن رعب ونهب وظلم ومجاعات، حيث المليارات من البشر بلا أمن من جوع وخوف، لا يموتون ولا يَحْيون، معلقون وعالقون بانتظار عدمي عجيب لموت نووي زؤام يزحف عليهم؟!
لماذا ينجرُّ أناسٌ كثُرٌ إلى ذلك الضلال ويفتنهم الضالون المضللون، ومن ثم يصبحون حربا على أُناس، فتعاني شعوب ودول من أزمات وضائقات ومظالم وحروب؟! ما سبب ذلك، وأين تكمن العلة؟ أهو في الطبيعة البشرية، في العقل الجمعي، في الخطاب والتلقي، في الحماسة، في العاطفة، في الظروف والمحيط والبيئة، في التربية والتعليم والثقافة، في فهم الدين، في واقع تدفع إليه ضرورات ووقائع؟!
لماذا يلعب النوويون تلك اللعبة النووية المدمرة القذرة، وهم الذين خاضوا حربين عالميتين مدمرتين في القرن العشرين، عانت منها شعوبهم وشعوب العالم من ويلات وويلات، وما تزال عقابيلهما تلحق بدول وشعوب حتى الآن.. حتى الآن، ومنها شعب فلسطين وغيره؟! أيُّ منطق، وأيةُ حكمة، وأيُّ تفكير نَيِّر ونظريات وفلسفات، وأيةُ قيم ومبادئ، وأيةُ مصالح ومكاسب، وأية هيمنة وانتصارات منتظرَة، وأية ديانات وإنسانيات تبيح ذلك؟! وأيُّ نظام عالمي مُرْضٍ وسليم ومنقذٍ ستفرزه حروب البغي والغي والفوضى تلك التي تعصف بعالمنا، وكيف سيكون ذلك النظام وكيف تفرضه وتحميه، وأية عدالة يحققها وتقوم فيه، وأي عالم سيكون؛ عالمٌ تسفرُ عنه مناقعُ الدَّم ومستنقعات البؤس، وجرائر الشر، وأشكال الخراب والفساد والإفساد يا تُرى؟!
وهل الذين يجرُّون اليوم دولا وشعوبا وجماعات إلى حروب عدوانية ـ عنصرية ـ توسعية ـ استعمارية، يشعلونها ويستثمرون فيها ويزجون الناس فيها في صراعات دامية، ينمو فيها ويمليها ويحكمها التطرف والتعصب: "العنصري، الديني، المذهبي، العرقي، القومي، الوطني، الـ.. إلخ"، هل مَن يفعلون ذلك ويدعون إليه، هم أشخاص أسوياء تماما، وقادة حكماء، مسؤولون بالمعنى "الأخلاقي ـ العقلاني ـ الإنساني" للكلمة والمسؤولية؟! أليس أولئك أو بعضهم مرضى من نوع ما، ولديهم جنوح كبير لطغيان واستبداد، وجنون عَظَمَة، وتطرّف عنجهي، وتفوق توهّمي، وغطرسة قوة، وأطماع وطموحات مفرطة، ونزوع عنصري ـ سلطوي ـ تسلطي.. إلخ؟! أوليسو في أحسن الافتراضات رُّوَيْبِضات في نَفْرَة التفاهة الفارهة، والتردي الجمعي " التربوي، الإرادوي، المعرفي، القيمي"، في أزمنة وأمكنة جثم ويجثم على صدور الناس فيها جهل وتجاهل وتجهيل واستغلال، وطغاة يحكمون بتسلط، وساسة يقودون بقصر نظر وعقم منهج وإفلاس وجدانيٍّ وروحيّ، عقلي ونفسيٍّ، ويحكمهم سوء تفكير وتدبير. يفقرون الناس ويقهرونهم ويجبرونهم على أن يكونوا أفواها ومعِْدات وإمَّعات وأدوات بأيديهم؟!
وهل يجوز حيال ذلك، وعند التلويح به والدلوف إليه، وإبَّانه وفي خِضمِّه، هل يجوز أن يُحجبَ الوعي ويحتجب ويُلجَم أو يَجْبُن، وأن يسكتَ الفكرُ، ويضْمُرَ الضَّميرُ، وتخرسَ الألسنُ، وتنحاز الثقافة إلى القوة العمياء أو أن تتبع وتَخمع، أو أن يتوزع أهلُها على أطراف الحرب القذرة ودعاتها، وأن يتنازعوا في ظلها، ويتركوا الناس لقمة سائغة للفتنة والافتتان بالقوة الغاشمة والعنف والتطرف والتَّغَلُّب والإرهاب والعذاب، يُجَرَّون إلى المهالك فيَقْتُلون ويُقْتَلون، ويجعلهم ساسة وقادة وأصحاب عصمويات ونظريات وسياسيات وطموحات كباشا تُراق دماؤها على مذابحهم، ويفقدون أرواحهم، ويفقد أبناؤهم وذووهم مستقبلهم ووجودهم؟! ويكتشف مَن ينجوا منهم، إن هو نجا، بعد فوات الأوان، أن كلَّ ذلك كان وبالا عليه وعلى غيره مِمَّن فُرضت عليهم زعامات فاشلة، وسياساتٌ قاحلة، وقراراتٌ ظالمة، ونظريات خائبة، وحروبٌ طاحنة؟! وأن كلَّ ذلك كان عبثا، وتلبية لنداءات باطلة، وخدمة لضالين مضلِّلين، بائسي فكر ومنعدمي ضمير، وذوي طموحات مريضة وأنانياتٍ متورمة، لا هم حكماء ولا هم أسوياء.
إذ لو أنهم كانوا غير ذلك، لأعملوا العقل، وفكروا بمنطق، واستناروا بالحكمة، وحكَّموا الضمير، وأعلوا شأن الأخلاق والقيم الإنسانية، وجَنوا هم وغيرهم ثمار السلم والأمن، وجنَّبوا الناس المهالك، وحفظوا الأرواح والحضارة.
ويبقى السؤال المحير: لماذا ينجرُّ أناسٌ كثُرٌ إلى ذلك الضلال ويفتنهم الضالون المضللون، ومن ثم يصبحون حربا على أُناس، فتعاني شعوب ودول من أزمات وضائقات ومظالم وحروب؟! ما سبب ذلك، وأين تكمن العلة؟ أهو في الطبيعة البشرية، في العقل الجمعي، في الخطاب والتلقي، في الحماسة، في العاطفة، في الظروف والمحيط والبيئة، في التربية والتعليم والثقافة، في فهم الدين، في واقع تدفع إليه ضرورات ووقائع؟! لماذ تنتشر الغوغائية والديماغوجية في أوساط مجاميع بشرية، وتسيطر على أحزاب تدعي العلمية والصلاح والإصلاح، فتغدو التعصب والعنف والتطرف والعمَه العام التام؟! لماذ يُضْفَى على بعض الأيدولوجيات التقديس، وتُعَمَّد بالعصموية تصبح دموية ونقمة على البشرية؟! ولماذا تصبح بعض الأفكار خناجر تُغمَد في قلوب مَن تستهدفُهم، أو في قلوب معتنقيها أحيانا؟! وكيف ولماذا يكتسبُ الضلال قوة، ويحول دون إشراقة العقل والرؤية، ويشل الوعي ويقتل الضمير؟! أين الخلل وأين العلة يا تُرى، وما هو المدخل إلى الإصلاح والصلاح والإصابة؟!
اللهُ وحده يعلم ويهدي الإنسان النَّجدين، وله وحده سبحانه في خلقه شؤوون وشؤون.
عن الانفصام الإسرائيلي تجاه ضمّ روسيا مناطق أوكرانية
الانتقال لاستعمار متعدد القطبية